في "امتداح الفساد"

في "امتداح الفساد"

22 أكتوبر 2017
+ الخط -
اعتقد الروائي البيروفي، ماريو فارغاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 2010 أن في وسعه أن يربح في الانتخابات الرئاسية في بلاده، ولم يكن يعتقد لحظة أن هزيمته ستكون مدوية، لكن الهزيمة تحولت عند صاحب رواية "امتداح الخالة" إلى موقف ساخر من السياسة، ومن الفساد المستشري في بلاده، إذ كتب نصا يشرح فيه أسباب الهزيمة. قال فيه إنه اكتشف متأخرا أن أنصار الرشوة أكثر شراسةً وضرواة من أنصار النزاهة، وأن هؤلاء الذين يقرأون رواياته الضاجّة بالتمرد على الاستبداد والسلطة الفاسدة ربما لم يفهموا شيئا، لأنهم كانوا في مقدمة الذين حاربوه في الانتخابات.
صارت الرشوة والفساد عند يوسا موضوعا ساخرا، فكان يقول للذين يسعون إلى محاورته إنه لن ينبس بحرف واحد، إذا لم يحصل على رشوة سمينة ومحترمة "فهي من شيم النبلاء". وفي موقف روائي لا يخلو من دلالة، كان يحمل معه مظروفا أصفر (يدس فيه بعض الورقات النقدية) إلى الإدارات، ويخبر الموظفين أنه قرر أخيرا أن يصير إنسانا سويا، وأن لا خيار للشعب سوى أن يكون كذلك، وحين سألته الصحافة عن غرابة ما يقوم به، رد بحسّ ساخر لاذع: أنا الآن من أنصار الفساد.
لا نعرف ماذا كان سيفعل فارغاس يوسا في المغرب، لأن مظروفا أصفر لن يكفيه، ولأن الصراخ أيضا لن يكفيه، خصوصا إذا وصل إلى حقيقة أنه ليس لدى الرشوة أنصار فقط، بل مفكرون ومستشارون، وتتوفر على"حكامة جيدة"، ويكفي إلقاء نظرة على تقرير منظمة منظمة الشفافية الدولية، أخيرا، عن واقع الفساد في المغرب لتحسّ بالدوار.
قبل سنوات، صوت المغاربة على حزب العدالة والتنمية الذي حمل شعار محاربة الفساد، وكان أمين عام الحزب، عبد الإله بنكيران، يومها، مزهوا حينما قال إلى الذين وثقوا بحزبه إنه لن يتساهل مع المفسدين، ولكن بينت التجربة أن سياسة "عفا الله عما سلف" التي أسس لها، في بداية ولايته الحكومية، أفضت إلى نتائج فورية، إذ تراجع المغرب، في مؤشر محاربة الفساد، وتغول رجال الأعمال والطبقة البرجوازية، وصارت مساحة المناورة كبيرة جدا فقط، لأن الجميع يدرك اليوم أنه لا أحد سيحاسب في الأخير. مشكلة بنكيران أنه اعتقد أن التساهل مع الفساد، ومع المرتشين، يمكن أن يوقف النزيف، لكن العكس هو ما حصل، وليته قرأ للمفكر المغربي عبد الكريم الخطيبي الذي قال يوما "إن الفساد بنية".
الفساد بنية متشابكة ومعقدة من المصالح بين رجال الاقتصاد والسياسة والموظفين الصغار والكبار، بيد أن الدولة لم تفهم بعد، أو لا تريد أن تفهم، أنه كلما تأخر الانتقال الديمقراطي وجد الفساد مساحاتٍ وبياضات لينتعش فيها أكثر، ومن الطبيعي بعد ذلك كله أن تتحسّس قلبك، وأنت تقرأ عن أرقام التهرب الضريبي والفساد في المؤسسات العمومية والتعويضات الخيالية التي يتلقاها مسؤولون أشباح، وعن تهريب الأموال إلى الخارج، وعن "الجنات الضريبية"، وعن ممارساتٍ يمكن أن نمضي أياما كاملة في عدها.
ينبغي أن تتوفر الدولة المغربية على الشجاعة الكافية، لتعترف بأنها فشلت في محاربة الفساد والرشوة في المؤسسات العمومية، وتعترف أيضا أن جزءا من ثروات البلاد تتقاسمها لوبيات تسرق وتنهب، وتتهرب، وتتشابك مصالحها مع أهل السياسة، وهنا يكمن أصل الداء. تقتضي الشجاعة إرادة سياسية، من دون التعلل بالمسوغات القديمة، كأن نقول إننا سنطرد المستثمرين وسنزرع الشك في الشركات الاقتصادية الكبرى، فالديمقراطية، في الأخير، لم تكن يوما ضد الاستثمارات والإصلاحات السياسية في أبجديات المنظمات الدولية، رديفة للإصلاح الاقتصادي.
والحقيقة أن الاستثمارات تهرب حينما تجد بيئة فاسدة، والشركات الكبرى تخاف عندما تواجه موظفين صغارا وكبارا لا يؤمنون سوى بمنطق الرشى، وحينما تواجه لوبي الإدارة الغارق في البيروقراطية.. بصيغة أكثر دقةً، يموت الاستثمار حين لا يرى جدوى في إجراء الانتخابات، وحين تذبل الديمقراطية وحين تكون العملية السياسية مجرد تمرينٍ تقني، لتغيير الوجوه (إن تغيرت).
تقول أرقام المؤسسات المالية إن المغرب حسّن من مناخ الاستثمار، ونجح في جلب قطاعات جديدة، مثل صناعة السيارات وغيار الطائرات والطاقات المتجدّدة، لكنه بالمقارنة مع دول أخرى لا تتوفر على المقومات نفسها التي يتوفر عليها المغرب، لا تظهر آثاره المباشرة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمغاربة. ولذلك كان من الطبيعي أن يعلن الملك محمد السادس عن فشل النموذج التنموي للبلد برمته.
إنه، في الأخير، ليس فشلا مقتصرا فقط على النموذج التنموي، بل فشلا للدولة والحكومة وللأحزاب وللنخب الثقافية، واعترافا صريحا بأن طاحونة الفساد في السنوات الماضية كانت أقوى بكثير من نيات الإصلاح.