لا أذان في مالطا

لا أذان في مالطا

10 اغسطس 2018

مشهد من فاليتا عاصمة مالطا.. (29/3/2017/Getty)

+ الخط -
تحضر"مالطا في ذاكرة الطفولة مرادفة لبُعد المسافة. كان الطفل منا يتهدّد قرينه بالقول: "أضربك أجيبك في مالطا"، أو يصف الطفل المسافة البعيدة أو المكان البعيد، فيقول "مشينا حتى وصلنا إلى مالطا"، أو قوله "بعيد مثل هنا ومالطا". لا ندري من أي جاءت هذه الكناية، علماً أن هذه الجزيرة المتوسطية أقرب إلى الشرق والمغرب العربيين من الصين أو اليابان أو أستراليا، أو كأن خيال الطفل منا لم يكن يقدر على التحليق أبعد من مالطا. وطالما تردّد اسم الجزيرة على ألسنة جداتنا كذلك، وهن يتحدّثن عن الحمّى المالطية القاتلة. وارتبط ذكر هذه الجزيرة أيضا بمثل عربي آخر "أذّن بعد خراب مالطا"، أو "يقيم الدين في مالطا"، والمقصود التأخر في إنجاز الأمر، أو استحالة إنجازه، تماماً مثل رفع أذان الصلاة في مالطا، بعد أن هيمنت المسيحية على الجزيرة في القرن الثالث عشر ميلادي، وأُرغم مسلموها على ترك دينهم، أو ترك الجزيرة.
تتبدّد هذه الصورة النمطية عن مالطا، بمجرد أن تطأ قدم الزائر هذه الجزيرة التي تنطق كل تفاصيلها بالعربية.
اليوم أحطّ الرحال في جزيرة مالطا، لأكتشف كم هي قريبة من العرب في كل شيء. تحضر اللغة العربية في اللهجة المالطية بشكل كبير، تحضر في أسماء المدن (الرباط، المدينة، سليمة، هودج، مليحة)، وأسماء الشوارع والأماكن، على لوحات الإرشاد، وفي وجوه الناس وأحاديثهم، وأسمائهم وألقاب عائلاتهم. كل شيء في شوارع الرباط وسليمة يذكّرك بأسواق حلب، حواري دمشق وطنجة، جبال عمّان وأزقة القدس القديمة. حتى الأمثال الشعبية المالطية عربية الجوهر، مثل قولهم "المكتوب مهوش مهروب"، ويقابل ذلك قول بعض أهل المشرق "المكتوب منوش مهروب". أمثال أخرى يردّدها أهل مالطا بعربية معوّجة "إشرب الماء الصافي من رأس النبع"، و"الله يعطيك شيء ويأخذ آخر"، وأجمل الأمثال المالطية على الإطلاق" فين تحب القلب يمشو الرجلين".
كتب الرحالّة العربي أحمد فارس الشدياق، وهو أشهر العرب الذين عاشوا في مالطا، عن حياته هناك بين عامي 1834 – 1857 كتابه "الواسطة في معرفة أحوال مالطا"، وأورد فيه أن العربية هي جذر اللغة المالطية، المتأثرة باللهجات الشاميّة والمغاربيّة، ويُرجّح أن أصل المالطيين مغاربة، بينما يُرجع آخرون أصل سكان الجزيرة إلى الفينيقيين الذي قدِموا من سواحل لبنان، أو العرب الذين عاشوا في صقليّة قبل ألف عام.
يلمس زوار الجزيرة بساطة العيش التي غادرت مدنا عربية كثيرة، فتحت صدرها للأبراج الزجاجية، وشرّعت أبوابها لرياح العصرنة الزائفة.
هنا تتجول في شوارع المدينة بأمان، يستقبلك الناس بـ"مرهباً" حارّة. في هذه الجزيرة، وجدت أرملة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، سها الطويل، وابنته زهوة، بيتا يحتضنهما بعد أن ضاقت بهما مدن عربية.
يمتد في أرجاء المدينة تاريخ من الفينيقيين والرومان والعرب، وصولاً الى مخلفات الاحتلال البريطاني الذي غادر مالطا في 1964. وترى في شوارع جزيرتي مالطا وغوزو أفواجا من السياح القادمين من أقصى الشرق والغرب، لكن قلة هم العرب مقارنةً بمن تراهم في شوارع لندن أو باريس.
وللجزيرة وجه آخر، فقد تصدّر اسم مالطا نشرات الأخبار، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما اغتيلت الصحافية الاستقصائية المالطية، دافني غاليزيا، بتفجير مفخخ استهدف سيارتها في أحد شوارع العاصمة فاليتا، لدورها في تحقيقات "فضيحة وثائق بنما" التي كشفت عن تفشّي الفساد في مالطا ودول أخرى. قبل اغتيالها بثلاثين دقيقة، كتبت دافني: "أيْنما نظرْتَ تجدُ المحتالين ومختلسي الأموال، الوضع مُخيّب للآمال وميْؤوس منه"، وكأنها أحسّت بالموت المتربص بها.. وفي هذه الجزيرة الوادعة، أيضا، اغتالت وحدة كيدون التابعة للموساد الإسرائيلي، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، فتحي الشقاقي، عام 1995.
عموما، يبدو ناس الجزيرة راضين بحياتهم، وهم ينعمون بزيت الزيتون وسمك السردين وشمس المتوسط، لكن سعادتهم لا تخفي قلقا زاد مع موجات اللاجئين الذين وصلوا إلى شواطئ الجزيرة في السنوات القليلة الماضية.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.