لبنان: قصة قديمة مع حكومات التكنوقراط

لبنان: قصة قديمة مع حكومات التكنوقراط

07 نوفمبر 2019
طالب المنتفضون باستقالة الحكومة (حسين بيضون)
+ الخط -
بات واضحاً أن عملية التشكيل الحكومي الجديد في لبنان، مرتبطة بعوامل عدة أفرزتها انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول اللبنانية، تحديداً لناحية شكل الحكومة ودورها التنفيذي، في ظلّ محاولات السلطة السياسية إعادة إنتاج نفسها بصيغة ما، ولو تحت اسم "حكومة تكنوقراط". في اليوم الـ21 على انتفاضة لبنان، لم يتمكن أطراف السلطة من الاتفاق على تأليف حكومة جديدة، فلقاء رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، مع رئيس الحكومة المستقيل، سعد الحريري، يوم الاثنين، لم يكن إيجابياً. كل الطروحات تمحورت حول إمكانية تشكيل حكومة من 24 وزيراً، 4 منهم أساسيون، وهم الحريري وباسيل، بالإضافة إلى وائل أبو فاعور عن الحزب التقدمي الاشتراكي وعلي حسن خليل عن حركة أمل. في المقابل، لن ينطبق مبدأ "التكنوقراط" بالكامل على الوزراء الـ20 الباقين، لكونهم سيتمتعون بغطاء حزبي لن يسمح لهم بالعمل خارج إطار المنظومة السياسية. وفي هذا الطرح تبقى القوات اللبنانية خارج الحكومة، "عقاباً" لها على استقالة وزرائها الأربعة في اليوم الثاني من الانتفاضة من جهة، ولحسابات رئاسية بالنسبة إلى باسيل من جهة ثانية، لناحية إبعاد رئيس القوات سمير جعجع عن معركة رئاسيات 2022.

ومع أن التيار الوطني الحرّ يسوّق لمبدأ "إذا لم يكن باسيل وزيراً لن يكون الحريري رئيساً للحكومة"، ما يعني وفق هذا الطرح، تشكيل حكومة تكنوقراط بالكامل، لا تخضع للشروط الحزبية، غير أن هذا الطرح لا ينال رضى حزب الله تحديداً، لاعتبارات عدة، منها أن مثل هذه الحكومة قد لا تستطيع مواجهة العقوبات الأميركية على الحزب، ما قد يؤثر على بيانها الوزاري، بما يطيح مصطلح "شعب، جيش، مقاومة"، الذي شرّع مراراً سلاح حزب الله منذ عام 2005، تاريخ انسحاب قوات النظام السوري من لبنان حتى اليوم. وبالتالي، فإن التيار الوطني الحرّ واثق من "عودة" باسيل إلى الحكومة مع الحريري بسبب تشبث حزب الله بمفهوم "الحكومة السياسية".

ومن الصيغ التي طُرحت أيضاً، تسمية وزيرة الداخلية في حكومة تصريف الأعمال، ريا الحسن، رئيسة للحكومة، مع العلم أن المآخذ على الحسن كثيرة، لكونها لم تقم بواجباتها الأمنية أمام مسلسل الاعتداءات على المتظاهرين في مختلف المناطق اللبنانية، مع بدء الانتفاضة. لا بل وصفت الاعتداءات في حديث لقناة "سي أن أن" الأميركية، بأن "الأمور السيئة تحدث". في المقابل، فإن اسم رئيس الحكومة السابق تمام سلام عاد إلى الواجهة، لكونه من الأشخاص المقبولين بيروتياً وفي الشارع السني ولدى حزب الله من جهة أخرى، لكن مشكلة سلام أنه من المحسوبين على الحريري، وليس خصماً له. وطرح اسمه يأتي في سياق إعادة السلطة إنتاج نفسها. مع ذلك فإن السلطة نفسها تطرح إمكانية ضمّ بعض شخصيات الانتفاضة إلى صفوفها، وفي هذا الأمر محاولة سلطوية لتفكيك الانتفاضة، عبر طرح أسماء، سعت دائماً لـ"ركوب الموجة الثورية" بغية تحقيق هدف شخصي، وهو ما يعيد الأمور إلى المربّع الأول، حول ضرورة تشكيل حكومة تنبثق فعلاً من مطالب الناس، لا بغرض تغيير بعض الوجوه والإبقاء على السياسات ذاتها، في ظلّ أزمة اقتصادية خانقة، لن تنتهي قريباً، مهما حاول حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، الإيحاء بذلك. كذلك من بين الأسماء المطروحة نظرياً لترؤس الحكومة، القاضي في محكمة العدل الدولية، السفير السابق لدى الأمم المتحدة نوّاف سلام، وهو محسوب، وإن بطريقة غير مباشرة، على الحريري.
مع العلم أن لبنان شهد سابقاً، بحسب تقرير لمركز "الدولية للمعلومات" للدراسات، 11 حكومة تكنوقراط، 9 منها قبل اتفاق الطائف (1990)، واثنتان بعده. ومن بين تلك الحكومات، اثنتان منهما كانتا مطعّمتين بسياسيين، هما حكومة أحمد الداعوق في عهد الرئيس فؤاد شهاب، بين 14 مايو/أيار 1960 و1 أغسطس/آب من العام عينه، وضمّت 8 وزراء، بالإضافة إلى حكومة أمين الحافظ، في عهد الرئيس سليمان فرنجية، التي ضمّت 17 وزيراً واستمرت بين 25 إبريل/نيسان 1973 و8 يونيو/حزيران من العام عينه. حكومة الداعوق جاءت في مرحلة انتقالية لدعم شهاب، الذي استقال من رئاسة الجمهورية قبل عودته عن الاستقالة بفعل "الدعم الشعبي". أما حكومة الحافظ، ففُرضت من فرنجية، إثر استقالة رئيس الحكومة صائب سلام، احتجاجاً على عدم إقالة قائد الجيش اللبناني في حينه، إسكندر غانم، بعد عملية فردان، التي اغتال فيها الإسرائيليون 3 قادة فلسطينيين في بيروت (كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف النجار).

وعدا هاتين الحكومتين، فإن حسين العويني ترأس حكومتي تكنوقراط في عهدي شهاب (1958 ـ 1964) وشارل حلو (1964 ـ 1970)، كذلك ترأس رشيد كرامي حكومتين مماثلتين في عهد حلو. وكان صائب سلام رئيساً لحكومة تكنوقراط في عهد فرنجية (1970 ـ 1976)، عشية الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990). وفي عهد الياس سركيس (1976 ـ 1982)، كان سليم الحص رئيساً لأطول حكومة تكنوقراط في تاريخ لبنان، استمرت نحو 3 سنوات، بين عامي 1976 و1979، وشهدت الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978، وبدء الخلاف بين جناحي الجبهة اللبنانية اليمينية، الكتائب والمردة عسكرياً، فضلاً عن اشتباك القوات اللبنانية مع القوات السورية في حرب الـ100 يوم في حيّ الأشرفية البيروتيّ.

حاول الرئيس أمين الجميّل (1982 ـ 1988) تأمين انطلاقة إنقاذية لعهده، بعد اغتيال شقيقه الرئيس بشير، بالاستعانة بشفيق الوزان رئيساً لحكومة تكنوقراط لم تستمر طويلاً، بفعل الأحداث العسكرية المتلاحقة في حرب لبنان. أما بعد انتهاء الحرب وبدء عهد الطائف، فغابت حكومات التكنوقراط لمصلحة حكومات الرئيس المُغتال رفيق الحريري، الذي تصادم سريعاً مع رئيس الجمهورية الجديد، إميل لحود (1998 ـ 2007)، الذي اختار سليم الحص، رئيساً لحكومة انتقالية بين عامي 1998 و2000. ومع تمديد ولاية لحود لثلاث سنوات في سبتمبر/أيلول 2004، انفجر الوضع اللبناني، بعد سلسلة تفجيرات واغتيالات، أدت إلى اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، واستقالة حكومة عمر كرامي في 28 فبراير من العام عينه، ليتفق الجميع بعدها على تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة نجيب ميقاتي، كان هدفها إجراء الانتخابات النيابية بين مايو ويونيو من العام عينه، من دون مشاركة أيٍّ من أعضائها في الانتخابات، وهو ما حصل، لتكون حكومة ميقاتي آخر حكومة تكنوقراط في تاريخ لبنان حتى الآن.