لماذا غربتنا موحشة... أو قل لماذا تقتلنا؟

لماذا غربتنا موحشة... أو قل لماذا تقتلنا؟

03 مايو 2018
+ الخط -
تلك الأجساد التي حملتنا وتحملّت ثـقل الشوق فينا، قد أُرهقت في منفاها الشبيه بسجن أُلقيَت فيه ظُلماً، شهقتها تُسمع ها هناك، في منفى آخر لجسد آخر متلهف للقاء يُخفف وجعاً بات ملموساً، يتحايل على صاحبه حتى يرميه في غربة هو في غنىً عنها، كأنه ما قال فيه ابن عبد ربه الأندلسي: الْجِسْمُ في بَلَدٍ والرُّوْحُ في بَلَدِ *** يا وَحْشةَ الرُّوْحِ، بَلْ يا غُرْبَةَ الْجَسَدِ

هذه الحياة لا تأخذ منا حتى تعطينا، هي تمهيد لكل شيء فقط، قد تبدأ بألم فيكون درساً واقعياً جداً، وقد تبدأ بفرحة تتلبّسنا كغيمة تحمل غيثاً يسعف قلوباً قاحلة تأبى أن تعيش، هي اختلافات في البدايات، لكن القادم لا يشبه شيئاً، لا بد أن يكون كذلك حتى نستطيع أن نتنفس من جديد، حتى نُجرِّب الانكسار، فمن كانت حياته خالية من الانتكاسات لن يتعلم شيئاً، لن ينهض للبحث عمّا ينقصه، سيبقى ثابتاً مكانه يشتكي تقلبات الزمن، هذا الأخير الذي يمضي تاركاً إياه كجسد فارغ تنهشه ذئاب الذكرى.

ستبقى أجسادنا عرجاء ما دامت أرواحنا منكسرة، خالية من معاني الحياة "كالحب"، هذه الكلمة التي تحمل كل معاني الكون، حاء وباء.. نعم اختصارات ننصهر فيها فنحيا، لأننا وببساطة نهرع لا لنبحث عما يشبهنا فما عشناه يكفينا دهراً آخر، بل نبحث عما يُكمِّلنا، عن وطنٍ يؤوي أرواحنا من تلك البعثرات المقيتة، فهي في حنين دائم لوطن آخر غير أجسادنا.


تلك التي نخالها غربة قد تجمعنا بحقيقـتـنا، تكسونا من برد الشوق، فنجد الروح التي تكشف الغطاء عن سعادتنا، وتستر عُري أجسادنا، تجبر كسر الأيام التي حبلت بكل معاني الحياة، إلا نحن أجهضتنا، ورمت بنا بليل في شارع خلفي مليء بالمشرِّدين، فبات أكبر طموح لنا الهرب ممن حجر علينا حريتنا، لم نولد بلا غاية.. وذاك الدفء الذي عشناه في رحم الحياة الأولى، سيسكننا في حياة ثانية تأخذ بيدينا نحو قلب يدق بنبضاتنا، لجسد نتكئ عليه في زحام تقلباتنا، دافئاً يضمّنا، لن نشتكي حينها من غُربة أوطان سنرجع إليها يوماً بحقائبَ من الذكريات، نرويها لأبناء وأحفاد من أصلابنا، نحن نركض نحو المنفى ليس إلا، وما إن نجد وطن الروح، تتركَنا أحلامنا الموحشة.

حتماً ستتقلص المسافات وتسوقنا إلى أصدقائنا وصور طفولتنا، أولئك الشبيهين بقطع السكر، من لا تحلو الحياة إلا بذوبانهم فينا، سنجد بعضنا في لحظة شرود لافت، ولا ندري كيف سنتعرف عليهم، سيجتاحوننا بغتة، ولن يكون منا سوى فتح أذرعنا لتمتد على أبسطها، فأرواحنا متلهفة لذاك العناق، لتُدفن به أوجاعَ أجسادٍ أرهقها الانتظار حتى تعيش حياة كانت من قبل قزلاء.

حينها سنغادر الغربة بأوطانٍ تليق بأوطاننا، سنرجع إلى جذورنا مُزهرين، وسنسقي تراب أرضها بحب، ستتشابك أيدينا ونتمشّى في الحي الذي تركناه ذات رحيل بارداً يشكو حنينه لجدران وفيَّة، لا يزال عِطر طفولتنا عالقاً فيها، نعم.. لا بد لنا من العودة، فذاك الحضن يؤوي كل الانكسارات، ولن يبقى لنا من هذا المنفى سوى حكايات نرويها لجيلٍ آخر جوعان إلى أوطان بمثابة امتداد لأوطاننا، ولن نعرفها مادامت أجسادنا عارية من أرواح ستسكننا يوماً ونسكنها.

هكذا نحن.. دائماً ما نرسم خطوطاً ونضع قوانين قد تكون مُجحفة بحقنا في الحياة، لكن ما إن نتوغّل في عمق الأخذ والعطاء حتى ندرك أن تقلّباتنا لم تكن إلا لحاجة في نفس كل إنسان، نكتشف صدفة أن انعزالنا قد أرهق أجسادنا، وأننا مَن تمرَّدنا على طبيعتنا المليئة بكل الصور القاتمة وحتى الملونة.

والحقيقة أنه لا توجد غربة غير تلك التي نعيشها بعيداً عن أرواحٍ تُكمِّلنا، قد نكون دونها كأوطان حُرّة لكنها عابسة تبحث عن مُنتمين لها، يرتمون في أحضانها، تُعطيهم تراباً وبذوراً، ويبقى عليهم تقديم واجب الرعاية الكافية حتى تُزهر ذات ربيع، وكل ما دون ذلك منفى يأخذ من راحتنا الكثير، ينقش فينا تجاعيد لا تُـنصِفُ أعمارنا، تترهل ملامحنا الطفولية، نُطلّق مرح الحياة وتبقى أجسادنا وحيدة عارية رغم ثـقل ما نلبس من قماش.

هكذا سيحدث ما دمنا نسير نحو الصوت الذي يطلبنا، نرى الإشارات، نتْبعها لأنّنا بحاجة إلى أنفسنا حتى نعيش بسلام، يكفينا تجاهلاً لتلك النداءات، فنحن تائهون جداً، ولا بدّ للجسد والروح أن يتعانقا يوماً، حينها سنتعرّف على الصوت القادم من وطن لم نعشه، لم نحتوِه، لم يربت على كتفنا بعد، وها نحن في شوقٍ إليه.

دلالات

FD25049A-4D88-4C5D-8140-3F6BE988B2C6
أحمد يونس

باحث ومختص في الشؤون الروسية.. عندما تشعل قنديل حياتك بدروب الأمل وتصنع نرجسيتك الفاضلة على صقيع اليأس، ثمة نبض يراوح مكانه بين هذا وذاك يفتش في ثنايا غربتك عن حياة.. عن سحر.. وعن حب.يقول: لا مكان للخائفين.. وحده الشجاع من يقوى على الوقوف رغم الرصاص الذي اخترق جسده المتهالك. باحث عن مسالك الوصول في صقيع اليأس. شجاع كفاية لأكتب ما كان وسيكون.