مأزق القبيلة في الأردن

مأزق القبيلة في الأردن

06 مارس 2018
+ الخط -
تشكل القبيلة أحد أهم عناوين الدولة الأردنية، وركنا أساسا من معادلة النظام السياسي الأردني، بوصفها الخزان الرئيس للولاء والانتماء والمعادل الموضوعي للأحزاب والقوى السياسية.
تواجه القبيلة اليوم سلسلة من التحديات الأساسية التي تعصف ببنية هذا التنظيم الاجتماعي التقليدي، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المملكة، في ظل تبني النظام السياسي مفهوم الدولة المدنية التي تتعارض جذريا مع هذه البنية، وتسعى إلى الإجهاز عليها.
لفهم صيرورة القبيلة في الأردن، لا بد من تتبع مسار صعودها وتراجع دورها في الحياة السياسية الأردنية منذ ما يقارب القرن على تأسيس الدولة الأردنية الحديثة 1921. مرت القبيلة في ثلاث مراحل مهمة، كانت عناوين "زعامة الدم، وزعامة البيروقراط، وزعامة المال"، هي المعايير التي حكمت تطور القبيلة، ومسار صعودها وهبوطها، كانت حصيلتها تغييرات عميقة تركت أثرها الكبير على شكل القبيلة، وعلى دورها، وحضورها الوطني العام.
شكل زعماء القبائل، في مرحلة تأسيس الدولة الأردنية على التحديد، وفي مجمل الدول العربية ما بعد حقبة الاستقلال، دعامة رئيسية للنظام السياسي، حيث حصل هؤلاء الشيوخ على اعتراف السلطة بدورهم وحضورهم الاجتماعي، وكان النظام السياسي يحصل، في المقابل، على تأييد هذه القوى، وضمان ولاء أفراد القبائل.

لاحقا؛ ومنذ منتصف القرن الماضي، انتقل زعماء القبائل إلى إدماج أبنائهم في مؤسسات الدولة وفتح هامش لأبناء القبائل في العمل في تلك المؤسسات، خصوصا المؤسسات الأمنية والعسكرية، فنشأت طبقة من الموظفين البيروقراطيين الذين غيروا ملامح القبيلة وشكلها، وهي التي كانت سابقا تعمّد، بشكل رئيس، على الزراعة والرعي، وتحول جزء من هؤلاء إلى مراكز مهمة بوصفهم أعيان هذه القبائل انسجاما مع مواقعهم الوظيفية التي حصلوا عليها.
شكل عقد السبعينات، وخصوصا اكتشاف الثروة النفطية في الخليج، بوابة جديدة لجهة استقطاب الشباب الأردنيين للعمل، واكتشاف طرق وأساليب للحصول على الثروة، على أمل الانتقال من هامش المجتمع وبوابة للصعود الاجتماعي، عبر تحقيق ثروة مكافئة للمرتبة الاجتماعية المتحققة من اللحاق بالوظيفة العامة أو الانتساب لموقع اجتماعي متحقق بفعل الزعامة التاريخية المستندة للنسب والدم.
كما ساهم تدفق المساعدات إلى الدولة الأردنية في انتعاش طبقة الموظفين العامين، وباتت الوظيفة العامة عنوانا للثروة والسلطة معا، وأدى تدفق عائدات المغتربين في انتعاش الاقتصاد الأردني، وخصوصا مبيع الأراضي بعد تسليعها، لتسهم في تحسين المكانة والوضع الاقتصادي لأفراد القبائل، بعد أن كانت، فيما سبق، مصدرا للرعي وعنوانا جغرافيا مرتبطا أساسا في هوية القبيلة.
مع انتصاف عقد التسعينات، نشأت مزاحمة بين التيارات الرأسمالية والبيروقراطية وزعماء الدم، تمكّن من خلالها أصحاب رؤوس الأموال من إقصاء زعماء الدم والبيروقراط عن الخريطة الاجتماعية لصالح الوافدين الجدد، فباتت مؤسسة البرلمان، وهي الوعاء المعبر عن التحولات الاجتماعية، بعد هيمنة أصحاب رؤوس الأموال والمقاولين مع محافظة الإسلام السياسي على مواقعه التي كانت تتذبذب، حسب مواقفه من النظام السياسي وصيغ الحكم القائمة.
وكانت القبيلة أيضا ركنا أساسا في عقل الإسلام السياسي، لجهة موازنة ثقل القبيلة مع مصالح الحزب الانتخابية. وكانت انتخابات العام 2003 محطة تمكّن الإسلام السياسي من اختراق محافظة عشائرية مغلقة، على غرار محافظة المفرق، عبر نجاح أحد كوادر الحركة في مقعد في البرلمان. وبقيت البرلمانات الأردنية، في العقدين الأخيرين، تحت هيمنة رجال المال والمقاولين، وسط اعترافاتٍ غير مسبوقةٍ من رجال أمن بأن جزءا كبيرا من هؤلاء تم إيصالهم إلى قبة البرلمان، بناء على رغبة الأجهزة الأمنية، وهو ما كشف التحالف الملتبس بين طبقة رجال الأعمال وجنرالات الأمن والطبقة السياسية المهيمنة.
وعلى الرغم من هيمنة رجال الأعمال على البرلمان، إلا أن هذا المرفق الوطني اليوم يعاني من انهيار شعبيته، وتراجع دوره في التضاد مع روح الدستور الأردني الذي ينص صراحة، في أول مبادئه، على أن "نظام الحكم نيابي ملكي وراثي"، في انسجام مع انسلاخ هذه الطبقة عن قواعدها الاجتماعية، وانسلاخ عن التعبير عن مصالحها السياسية والاقتصادية.
في السياق نفسه؛ تأثر الإسلام السياسي في الأردن بتعاظم دور القبيلة وحضورها التاريخي، ونمو دور طبقة رجال الأعمال، خصوصا في العقدين الأخيرين، مع تعثر تجربة الإسلام السياسي وانهيار المشروع الوطني الفلسطيني، الأمر الذي يمثل الخزان التصويتي للإسلام السياسي لدى الكتلة الفلسطينية في الأردن، حيث باتت عناوين القبلية والمناطقية هي المحدّد لانحياز الناخبين وانزياحهم لصالح البنى التقليدية تلك.
اليوم يثار في الأردن مفهوم الدولة المدنية، وهو العنوان الذي عبر عنه الملك عبد الله الثاني في ورقته النقاشية، أطلقها خريف عام 2016، بعد نجاح نوابٍ قدّموا برنامجا تحت عنوان الدولة المدنية، ولاحقا تم الإعلان عن تأسيس أحزابٍ رفعت شعار الدولة المدنية، جديدها الإعلان عن تأسيس تحالف مدني، يهدف إلى تجذير هذا المفهوم. اللافت كان هو الانقسام في جماعة الإخوان المسلمين بشأن تأييد هذه الفكرة بين التعامل معها بوصفها حقا مشروعا، وبين من اعتبر أن هذا المفهوم، في جوهره، معاد للإسلام السياسي وفي الضد منه.
عمليا، انتهت في الأردن، منذ منتصف عام 2013، ثنائية الدولة والإخوان المسلمين، بعد
كسرهم تفاهمهم التاريخي مع النظام السياسي، وسعيهم إلى توظيف رياح الربيع العربي في الأردن لإنجاز تغيير جوهري في بنية النظام السياسي لصالحهم. وجرى لاحقا تفكيك بنية مؤسسات الدولة تحت عنوان "هيكلة " هذه المؤسسات، ما أدى إلى نشوء حالة من التململ في القواعد الاجتماعية للنظام السياسي، خصوصا في المناطق التي تحكمها العصب القبائلية والمنطقية، مع توالي البيانات التي تخرج من القبائل الأردنية اليوم، كما الحال مع بيان مجلس عشائر العجارمة جنوب غرب العاصمة عمان، وبيان عشائر المبيضين في الكرك، والتي قدمت مقاربة سياسية حاكمة النهج القائم، وأشارت إلى الخلل العميق الذي يعتريه.
يأتي الحراك المناطقي والعشائري في ظل تراجع دور الأحزاب التي بلغت، حسب آخر بيانات لوزارة التنمية السياسية، نحو 50 حزبا، وفي طليعتها الأحزاب القومية واليسارية، والتي كانت تشكل ما تعرف "تنسيقية أحزاب المعارضة"، والتي تفكّكت نتيجة للخلاف حول الأزمة السورية، إضافة إلى تراجع دور النقابات المهنية التي كانت على الدوام، معبرا عن تطلعات شريحة واسعة من الطبقة الوسطى، وهو ما يشي بتغير البنى والمنابر السياسية.
اليوم تواجه القبيلة والإسلام السياسي معا مفاعيل التغييرات التاريخية والسياسية التي تعصف في الأردن والمنطقة، ونمو تياراتٍ تدعو إلى إعادة صياغة شكل النظام السياسي، من خلال تجاوز تلك الصيغة، نحو تجذير مفهوم الدولة المدنية وسيادة القانون، وتقديم مطالعات حزبية، عنوانها البرامجية في مواجهة خطاب الأيديولوجيا المفارق للواقع.
كما ستسهم التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في فرض تغييرات قسرية على مفاهيم القبيلة، ودورها وحضورها الوطني العام، خصوصا مع المطالبات الشعبية والحراكية اليوم بضرورة تغيير "نهج الحكم" نحو تحول ديمقراطي عميق، يؤسس لشكل مدني وحضاري، على حساب البنى التقليدية القائمة.
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
منصور المعلا

كاتب ومحلل سياسي اردني، بكالوريوس في العلوم السياسية

منصور المعلا