مجلات أنغلوفونية... نقّاد من جيل الحبر والورق

مجلات أنغلوفونية... نقّاد من جيل الحبر والورق

25 ابريل 2019
أخرج روجرإيبرت النقد من صفحات الصحف إلى الاستديو(Getty)
+ الخط -
في النقد السينمائي الأنغلوفوني، هناك شخصيات بارزة ووجوه معروفة. هناك أسماء تترك رنّة خاصة في الأذن. بعض هؤلاء صاروا من الماضي، في ذمّة التاريخ. بعضهم الآخر لا نزال نلتقي بهم في مهرجانات دولية، وإنْ بدأت إطلالاتهم تصبح أنْدر، مع دخولهم خريف العمر. كبار النقد جميعهم من جيل الورق والحبر، خلافًا لنقّاد شباب يقتحمون الفضاء الإلكتروني منذ مقتبل تجربتهم المهنية. 

رغم أنّ مجلتي "سايت أند ساوند" (1932) البريطانية و"فرايتي" (1933) الأميركية تهيمنان على المشهد السينمائي منذ عقود، إلاّ أنّ "سلطتهما" تراجعت بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، كـ"تويتر" و"فيسبوك" (ما دفع مهرجان "كانّ" مثلاً إلى تعديل عروض الصحافة، كي تتوازى مع العروض الرسمية). بالإضافة إلى مواقع كـIMDB و"روتن تومايتوز"، حيث يستطيع أيّ أحد ترك تعليق له على فيلم شاهده.
ارتبطت الصحافة السينمائية في أميركا بصناعة الفيلم نفسه، إلى درجة أنها بدت ذات منحى ترويجي. لكن هذا لم يمنع وجود مطبوعات مستقلّة ورصينة، ومتحرّرة من الضغوط، كالمجلتين المذكورتين آنفًا، بإضافة "فيلم كومنت" (1962)، التي ينشرها "مركز لينكولن"، والمجلة البديعة المخصّصة لفنّ التصوير السينمائي، "أميركان سينماتوغرافر"(تنشرها "جمعية المصوّرين الأميركيين")، التي تحتفي بمئويتها الأولى عام 2020.

مفاهيم النقد السينمائي واتجاهاتها تختلف من بلدٍ إلى آخر، ومن لغةٍ إلى أخرى، ومن ثقافةٍ إلى ثقافة. النقد في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا يخضع لشروط واعتبارات وقيم ربما لا تعني شيئًا في بلدانٍ أوروبية، كإيطاليا وفرنسا. الكتابة بالإنكليزية تعني أولاً الوصول إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء في العالم، ما يُشهِر أسماء. روجر إيبرت لمع نجمه في "شيكاغو سان تايمز"، وفيليب فرنتش في "ذا أوبزرفر"، وبولين كايل في "ذا نيويوركر"، وأندرو ساريس في "ذا فيلاج فويس".

يستحيل الحديث عن النقد الأميركي من دون ذكر روجر إيبرت (1942 ـ 2013)، "مالئ الدنيا وشاغل الناس" في أعوام نشاطه. هو نجم النقّاد في العالم، بفضل برنامجه التلفزيوني "إيبرت وسيسكل" (مع جين سيسكل، زميله الناقد في "تشيكاغو تريبون"، أخرج النقد من صفحات الصحف والمجلات إلى ضوء الاستديو، وإلى التفاعل مع المُشاهدين، صوتًا وصورة). هو من قلّة أعطت وجهًا للنقد. جمهور واسع كان يستمع إليه. جمهورٌ، يُمكن القول إنه لم يكن فقط من المتخصّصين، بل جلهم أناس عاديون يريدون اختيار مشاهداتهم الأسبوعية.
فكرة الإصبعين المرفوعتين إلى الأعلى ابتكرها إيبرت المُدهش، التي ساعدته في إبداء رأيه في الأفلام. هذا الحائز جائزة "بوليتزر" يتحدّر من مدرسة نقدية، تحمل هوية أميركية خالصة في نظرتها إلى الأشياء. أسلوبه يمتاز بالسلاسة والرشاقة، ولا يتوانى عن استخدام الدعابة، أو إبداء الرأي الذي يعتمد فيه على نسبية الطرح. في مقالات عديدة له، لجأ إلى مقارنة الفيلم بفيلم آخر، على طريقة الخوارزميات في عالم "إنترنت"، التي تقترح مُشاهدة فيلم مُشابه، فور الانتهاء من مُشاهدة الفيلم الفلاني. أما النجوم التقويمية من واحدة إلى أربع، فهذه أيضاً كانت من اختصاصه. صحيح أنه كان يبدي تسامحًا مع بعض الأفلام، لكنه لم يُخفِ عدائيّته لأفلام أخرى. إلاّ أنه كان دائمًا يتجنّب الكتابة الانفعالية، وتصفية الحسابات الرخيصة. لذلك، ظلّ دائمًا صاحب صدقية لا غبار عليها. لم تكن آراؤه ليبيرالية دائمًا، بل مُحافظة أحيانًا، خصوصًا إذا تناولت أفلامًا مُثيرة للجدل، وما أكثرها.

الناقد الأميركي ليونارد مالتن (1950) صنع مجده بطريقة أخرى تمامًا، خارج إطار الصحف والمجلات السينمائية. هذا الرجل ـ الذي شاهد "أطنانًا" من الأفلام، إلى درجة أن محاولة إحصائها ضربٌ من الجنون ـ يُعدّ أحد أساتذة النقد في العالم. إلاّ أنّ اسمه غير مرتبط بصحيفة يومية أو مجلة شهرية أو برنامج تلفزيوني، بل بأشهر دليل للأفلام باللغة الإنكليزية أبصر النور على الإطلاق، منذ صدوره عام 1969، وظلّ يُصدره حتى عام 2014 من دون انقطاع، بنسخٍ وإضافات، إذ كان يخضع للتحديث كلّ عام.

ينتمي مالتن إلى الجيل الأول للتلفزيون في أميركا، الذي لطالما كان "المتحف الحيّ للسينما". عن الفرق بين المدرستين النقديتين الفرنسية والأميركية، يقول مالتن: "لا يمكن تجاهل الفرنسيين في هذا المجال. إنهم البداية. السينمائيون الفرنسيون جميعهم، الذين انطلقوا كنقّاد، هم الذين فتحوا عيون الناس على جماليات السينما، خصوصًا في أميركا. أندرو ساريس حمل رسالتهم. أعتقد أنّ لدينا نقّادًا جيدين في أميركا، لكن توجّههم ليس سياسيًا".
البريطاني ديرك مالكوم (1932) لا يزال يتنقّل بين المهرجانات الدولية، خصوصًا تلك المُنعقدة في الهند، شبه القارة التي له علاقة خاصة بها وبسينماها. هذا الناقد الطليعي، الذي كتب في الـ"غارديان" أعوامًا طويلة، ثم في الـ"إيفنينغ ستاندارد"، انتهى به الأمر على صفحات موقع "هافينغتون بوست".
مالكوم من النقّاد الذين لاقت كتاباتهم في الصحف البريطانية صدى طيّبًا لدى القرّاء. يُمكن القول إنّ ما يكتبه هو خلاصة من الطرافة والعلم والقراءة الذاتية التي تعصى على التقليد. مالكوم يُعدّ "مؤسّسة" في ذاته، وصاحب عقلٍ نيّر وثقافة تمتد من أقصى الشرق إلى الغرب. له قدرة عالية على تفكيك ما تخفيه الأفلام. كما يُمكن مجادلة المدارس النقدية معه ساعاتٍ مديدة. يعتبر أنّه يمارس النقد المنهجي، الذي يأخد في الاعتبار ظروف صناعة الفيلم وخلفية المخرج، وحتى أعماله السابقة. "يهمّني كلّ ما يتجاهله النقّاد الآخرون، وسيكون ذا أهمية في تقويمي للعمل". بحسب قوله، على الناقد أنّ يكون مُطلّعًا على الواقع ليرى مدى المساومة التي اضطر المخرج لتقديمها. لكنه لا يعتبر هذا واجبًا، على الجميع التزامه. هو يُصنّف نفسه من النقّاد "التدخليين"، أي أنّ مهمته تقتصر على تشجيع الناس على ارتياد الصالات لمُشاهدة أفلام مختلفة. يُقرّ أنه أحيانًا ينجح، وأحيانًا يفشل.

المساهمون