مزايدات فرنسية

مزايدات فرنسية

14 فبراير 2019
+ الخط -
تشهد العلاقات الفرنسية الإيطالية توترا غير مسبوق، وصل إلى حد استدعاء فرنسا سفيرها في روما. ويعود هذا التوتر إلى خلافٍ بين البلدين إزاء ملفات إقليمية ودولية، وهو الخلاف الذي وصلت ارتداداته إلى الاتحاد الأوروبي الذي تعتبر فرنسا وإيطاليا من ركائزه الأساسية.
تُمثل الهجرة أحد الملفات الرئيسية في الخلاف، ففي السنة المنصرمة، أثار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حفيظة إيطاليا، عندما استنكر رفضها استقبال سفينةٍ كانت تقل مهاجرين غير شرعيين، ورأت روما في هذا التصريح مزايدة سياسية تتوخى باريس منها الهروب إلى الأمام، والتنصل من مسؤولياتها في هذا الملف، واعتبرت أنه في الوقت الذي تجتهد فيه فرنسا في إعطاء دروسٍ لبلدان الحدود الأوروبية بشأن كيفية التعاطي مع مشكلة المهاجرين غير الشرعيين الذين يتدفقون على سواحل جنوب إيطاليا ومرافئه، كان الأجدر بها أولا أن تستقبل حصتها من هؤلاء، والتخفيف من معاناتهم، وثانيا أن تعيد النظر في سياساتها إزاء دول جنوب المتوسط، وخصوصا مستعمراتها الأفريقية السابقة.
والواقع أن للطرح الإيطالي في هذا الصدد بعض الوجاهة، من دون أن يعني ذلك، بالضرورة، تبنّيـا لطروحات اليمين الإيطالي الصاعد، ففرنسا ليست في موقعٍ يسمح لها بالمزايدات، من خلال تقديم ''اجتهاداتٍ'' أمنيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ بشأن التعاطي مع المهاجرين، سيما الذين ينحدرون من البلدان الأفريقية، والتي تتحمّل فرنسا مسؤولية تاريخية في إفقارها، باستباحة خيراتها وثرواتها، ودعم أنظمتها القمعية والفاسدة.
ترتبط معظم هذه البلدان باتفاقيات اقتصادية وتجارية قديمة مع فرنسا، تضمن للأخيرة امتيازات تفضيلية بشأن استغلال مواردها وثرواتها، وضمان سوقٍ واسعةٍ لمختلف المنتوجات الفرنسية الموجهة نحوها. كما لا ينبغي إغفال دور فرنسا في صناعة النخب الأفريقية الحاكمة، والتأثير في التوازنات الاجتماعية والسياسية، عبر تحالفاتٍ مدروسةٍ مع النخب السياسية والعسكرية في معظم مستعمراتها السابقة، ما يستتبع ذلك من استشراء الفساد، وتزايد نسب الفقر والهشاشة، وتردّي الأوضاع المعيشية لغالبية السكان، وإجهاض كل محاولات الإقلاع والتنمية.
ولذلك، فإن جزءا غير يسيرٍ من حل مشكلة المهاجرين بيد صانع القرار الفرنسي، فعليه العمل كي يرفع الرأسمال الفرنسي العابر للحدود يده عن البلدان الأفريقية، وأن يكفّ عن الاستنزاف الممنهج لثرواتها، ومصادرة حق شعوبها في تقرير مصيرها بعيدا عن أي وصاية، فلماذا تغضب باريس من لقاء مسؤولين إيطاليين بممثلين عن حركة السترات الصفراء، وتعتبر ذلك استفزازا غير مقبول؟ أليس هذا هيّنا إذا ما قورن بحجم التدخل الفرنسي في الشؤون الداخلية للبلدان الأفريقية، وتعطيله عجلة التنمية فيها؟
ويمثل الملف الليبي، بكل تعقيداته السياسية والأمنية، سببا آخر للخلاف بين فرنسا وإيطاليا، بالنظر للموقع الاستراتيجي الذي تحتله ليبيا داخل معادلات القوة والنفوذ جنوب حوض المتوسط، فإيطاليا تعتبر ليبيا امتدادها الحيوي والاستراتيجي، لأسبابٍ جغرافية وتاريخية معروفة، ناهيك عن أن السواحل الليبية غدت، في السنوات الأخيرة، بسبب الانفلات الأمني، منطلقا للمهاجرين غير الشرعيين الساعين إلى الوصول إلى أوروبا عبر الأراضي الإيطالية. ولذلك، ترى إيطاليا أن من مصلحتها تحقيق الاستقرار في ليبيا وإنهاء حالة الفوضى التي تشهدها منذ سقوط نظام القذافي قبل ثماني سنوات، لأن ذلك سيجعلها أكثر قدرةً على التحكم في ملف الهجرة وضبط إيقاعاته بالتعاون مع السلطات الليبية، بينما تنبني الاستراتيجية الفرنسية في ليبيا على ركيزتين: إيجادُ تسوية سياسية، يكون فيها للواء المتقاعد خليفة حفتر دور أساسي في المشهد الليبي، والعملُ على ضمان مصالحها النفطية الكبرى. وقد باتت هذه المصالح تتضارب مع المصالح الإيطالية، بعد التطورات الميدانية أخيرا في منطقة جنوب غرب ليبيا التي سيطرت عليها قوات حفتر، وهي المنطقة التي تعتبر مصدرا أساسيا لحاجيات إيطاليا من النفط والغاز.
صعود مشكلة المهاجرين إلى الأجندات الإقليمية والدولية، وتداخلها مع قضايا الإرهاب والهوية والتنمية، لا يسائل فقط مستقبل الاتحاد الأوروبي أمام تنامي حركات اليمين الشعبوي المعادية للأجانب واللاجئين، بل يستدعي هذه المشكلة بكشف أسبابها التاريخية والعميقة، والتي تحاول القوى الاستعمارية التقليدية، وفي مقدمتها فرنسـا، تجاهلها والقفزَ عليها.