مسعود البرزاني... الثعلب الكردي باني دولة شعب الجبال

مسعود البرزاني... الثعلب الكردي باني دولة شعب الجبال

22 سبتمبر 2014
البرزاني اليوم هو الرجل العراقي الأقوى (سافين حامد/فرانس برس)
+ الخط -
يستطيع الأكراد أن يفاخروا اليوم بمسعود البرزاني، مثلما كان الفلسطينيون يعتزون بياسر عرفات، الذي نقل شعبه من حالة الشتات ووضعه على درب النضال الوطني، وجدول أعمال المجتمع الدولي. البرزاني اليوم علم على رأسه نار، هذا الرجل القصير الهادئ الحاد الذكاء البراغماتي العنيد الحالم، الذي واجه العواصف، ظل واقفا أمام قوة الرياح التي عصفت بالأكراد من أكثر من جهة. كادت التطورات الكبيرة في المنطقة بين بغداد وطهران ودمشق أن تأخذ في طريقها الأكراد أكثر من مرة، وفي أحيان كثيرة حسب العالم أن الأكراد سوف يذهبون "فرق حسابات" بين البلدان الأربعة التي تتوزعهم (العراق وتركيا وإيران وسورية)، ولكنهم كانوا يعودون، فجأة، إلى الخارطة كرقم صعب.

يعود السبب في صمود الأكراد في وجه حروب الانقراض والإلغاء التي واجهوها إلى ثلاثة عوامل: الأول، الحسابات البراغماتية لمسعود البرزاني. والثاني، الدعم الغربي لقضيتهم منذ عام 1991. والثالث، تشبث الأكراد بحق الوجود والإصرار على البقاء كجزء من المعادلة. ويسجل للبرزاني أنه استفاد من الأخطاء القاتلة التي ارتكبها والده، الملا مصطفى البرزاني، وخصوصا العجالة في تحقيق الحلم الكردي لتصحيح خرائط المنطقة التي جرى رسمها بعد الحرب العالمية الأولى، فالابن فهم مبكراً أن عدالة القضية لا تكفي وحدها لكي يكون الأقوياء معك، بل يجب أن تقرأ التطورات جيداً وأن تعمل كي تصبح طرفاً في المعادلة، والميزة التي امتلكها البرزاني هي المناورة، لذلك لم يركن إلى دعم ومساندة طرف بعينه، كما فعل والده الذي عوّل على الولايات المتحدة في صورة عمياء حتى مات على أرضها عام 1979.


مسعود البرزاني مناور بارع، بدليل أنه استطاع أن يفلت من فخاخ الرئيس العراقي صدام حسين الذي أراد أن يقتله أكثر من مرة، ولعب على الحبلين السوري والعراقي من دون أن يقع، وهو السياسي الكردي الوحيد الذي تمكن أن يأمن جانب الأتراك. وفي فترة كان الكردي بالنسبة لهم العدو رقم واحد، كان هو الذي فتح ثغرة في جدار الممانعة التركية، وصار الأتراك يفتحون له صالونات الشرف ويستقبلونه كزعيم، ويؤمنون له ممرا إلى العالم حين أغلقت أبواب بغداد في وجهه. ومن تركيا جاب العالم لكي يوفر الدعم الدولي للكيان الكردي، واضطر في أحيان كثيرة أن يقاتل أبناء جلدته أكراد تركيا لكي يبني أرضية يقف عليها في أربيل، في وقت كان حتى حليفه جلال الطالباني يتحين الفرص لكي يقضي عليه. اشتغل البرزاني بدأب وصمت ومن دون ادعاء، وكان يعرف أن الصبر هو سلاح الأقوياء، وأن التسرع لا يحرق الطبخة فقط، وإنما له نتائج كارثية حين يتعلق الأمر بمشروع استراتيجي بعيد المدى.

لذلك سار على مبدأ خذ وطالب وأبعد عن نفسه سياسة "كل شيء أو لا شيء"، ونجح، انطلاقا، من قرار إنساني لحماية الأكراد سنة 1991 أن يصل إلى بناء كيان متكامل وراسخ سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وظل يراقب اتجاه الريح لكي يوقت قراره للوصول بالمركب الكردي إلى تحقيق حلم الأكراد بالاستقلال، وإعلان الدولة الكردية. لا شك أن إخفاق مشروع صدام حسين كان نعمة على البرزاني، ومن دون ذلك ما كان لينجح في الحصول على هامش استقلالية بعيدا عن بغداد، ليطوره بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003 إلى كيان بات يدعى دستوريا إقليم كردستان ذو الحدود الواضحة والصريحة، وكل ما يرافق ذلك من مستلزمات السيادة من علم وجيش وحكومة...


لعب البرزاني على استثمار الانقسام الطائفي في العراق الذي غذّته إيران لنصرة السياسيين العراقيين التابعين لها من التنظيمات الدينية المحسوبة عليها، وكلما كان الطرفان الشيعي والسني يزدادان انقساما وضعفاً، كان الأكراد يراكمون المكاسب وتتعاظم قوتهم، ويتصرفون من منطلق أنهم هم الطرف المرجح، وبقي الوضع على هذا الحال حتى اصطدموا مع نوري المالكي في عام 2012، وشاركوا برحيله في نهاية المطاف. كان في كردستان رئيسان، أحدهما للعراق هو مام (العم) جلال، والثاني للأكراد هو كاكا (أخ) مسعود. وقد عرف البرزاني داء الطالباني وغرامه بالتشريفات، فأبعده عن طريقه بنعومة إلى بغداد ليجلس في مكان صدام حسين ويبقى من خلاله على صلة ببغداد. نجح البرزاني من خلال ذلك في تجنب الخلافات الكردية الكردية، وأن يمسك بالورقة الداخلية بقوة، هو الذي عرف كيف يراهن على الأكراد كخميرة قوية لمشروع وطني كردي، ينقلهم من رؤوس الجبال وينفض عنهم غبار القتال، نحو بناء دولة حديثة اقتصادياً، صارت تنافس الكثير من المشاريع التي بنتها بعض بلدان الخليج في العقود الثلاثة الأخيرة.


ويؤكد زوار الإقليم الكردي أن كل ما هو على الأرض جرى التخطيط له؛ ليكون قاعدة للدولة الكردية التي تنتظر الوقت المناسب لإعلانها فقط، وينعكس ذلك في الإدارة والعمل الحكومي والاقتصاد والجيش والأمن، بل إن الأكراد يتعاطون مع البرزاني بوصفه الرئيس سواء تم إعلان الدولة رسميا أم لم يتم، وبدوره يعمل البرزاني وفق هذه القاعدة، حتى أن تأثيره واهتماماته باتا يتجاوزان حدود كردستان العراق إلى أكراد سورية وتركيا، ومن هذا المنطلق كثف تحركاته مؤخرا ليشمل أكراد سورية في خطة مواجهة "داعش" ليس هناك من بين زعماء العراق، اليوم، من هو أقوى من البرزاني، حتى الزعماء الذين تدعمهم وتسلحهم إيران فشلوا في بناء مشروع لقيادة البلد، ولذلك حين تأزم الموقف ووصل في الآونة الأخيرة للذروة كان القطاف من نصيب البرزاني، الذي بات المرجع الرئيسي في عيون الغرب، ولذا انهال عليه الدعم من دون شرط تحت شعار محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وهذا يعني أنه سيصبح صاحب الكلمة الأولى في هذه المنطقة، والمتحدث ليس أمام الغرب فقط، بل الإيرانيين والأكراد والعرب. ولكن السؤال المطروح هو هل تقود التطورات الراهنة في العراق والمنطقة إلى وضع يتيح للبرزاني أن يعلن استقلال إقليم كردستان؟ يرى المراقبون أن هذه الخطوة مرتبطة بنتيجة المعركة الراهنة في العراق، ولا سيما في جانبها المتعلق بالوصول إلى تسوية نهائية بين المكونين السني والشيعي، ففي حال استمر التنافر على حاله فإن الطريق ستصبح سالكة أمام الأكراد، ولهذا السبب يلوح البرزاني بالاستفتاء من حين لآخر .