معاداة السامية... ترامب يتواطأ مع إسرائيل بتعريف جديد

معاداة السامية... ترامب يتواطأ مع إسرائيل بتعريف جديد

30 ديسمبر 2019
يتابع المرسوم الانحياز إلى إسرائيل (أحمد غرابلي/ فرانس برس)
+ الخط -


يفتح مرسوم أميركي جديد أقرّه الرئيس دونالد ترامب، في ما خص تعريف معاداة السامية، الباب أمام مزيد من الدعاوى القضائية كما إمكانية تجميد الأموال الفدرالية التي تحصل عليها مؤسسات أميركية ثقافية أو جامعات تسمح لجمعيات طلابية بالنشاط والدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، مثل جمعية "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" ونشاطاتهم في الجامعات التي تهدف إلى نشر الوعي حول معنى الاحتلال وممارساته.

وعلى الرغم من أنّ المرسوم الرئاسي ليس ملزماً كالقوانين التي يسنّها الكونغرس لكنّه يؤخذ بالحسبان. ويمكن بموجبه تجميد المساعدات الفدرالية التي تحصل عليها جهات أكاديمية إذا لم تتمكن من حماية الطلاب اليهود في جامعاتها من التعرض لمعاداة السامية. وتكمن المشكلة بالخلط بين أمرين، معاداة السامية وانتقاد سياسات دولة الاحتلال الإسرائيلي. ويتعامل هذا التعريف مع إسرائيل وكأنّها الممثل الرسمي والوحيد لكلّ يهود العالم، وهو غير صحيح لأنّ الدول تمثل مواطنيها، على الأقل نظرياً. ولأنّ اليهودية ديانة يعيش أتباعها في بلدان مختلفة والأغلبية الساحقة من اليهود لا يعيشون في فلسطين التاريخية. والأهم أنّ هناك يهوداً لا يعترفون بإسرائيل كممثل لهم ويقفون ضد الصهيونية. ومن الضروري عند التطرق للموضوع عموماً ألا نغفل أن هناك مشكلة وعداء.

تصعيد خطير

لا بدّ من قراءة صدور هذا المرسوم الرئاسي في سياقه الأوسع. فهو تصعيد خطير وفصل آخر في سلسلة الإجراءات التي اتخذت والقوانين التي سنّت في الولايات المتحدة ضد حركة المقاطعة العالمية ومحاولات تشويه سمعتها وربطها بمعاداة السامية خصوصاً في السنوات الأخيرة. ولعلّ ذلك يأتي في محاولة لردع منظمات يهودية أو يهود أميركيين وأوروبيين أيدوا الحركة، لا سيما أنّها بدأت تحظى بتأييد أوسع، وأحد الأمثلة على ذلك منظمة "أصوات يهودية من أجل السلام" الأميركية.

تغيرت المعركة من محاربة رموز المقاطعة أو مؤيديها لتشمل كلّ من يدافع عن حقوق الإنسان الفلسطيني وحقوق الفلسطينيين الوطنية، بما فيها حقهم في تقرير المصير وإنهاء احتلال بلادهم. ولا بد من ربط هذا القرار بقرارات أميركية سياسية أخرى كقرار وقف دعم وكالة "أونروا" التي تخدم أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني، في فلسطين المحتلة ولبنان وسورية والأردن، كما قرار الإدارة الأميركية إغلاق سفارة فلسطين في واشنطن ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.

شهدت الولايات المتحدة في السنوات الخمس الأخيرة أكثر من ثلاثين محاولة لسنّ القوانين على مستوى الولايات لملاحقة المقاطعة ومؤيديها. وعلى الرغم من أنّ أغلبها فشل، فإنّ بعضها تكلل بالنجاح لمحاربي المقاطعة، كما هي الحال في إيلينوي وساوث كارولاينا وغيرهما. وفي ولاية نيويورك مثلاً، أصدر حاكم الولاية، أندرو كومو عن الحزب الديمقراطي، قراراً إداريا يقضي بمحاربة حركة المقاطعة، وعدم تقديم أيّ دعم مادي لأيّ من النشاطات التي تدعم حركة المقاطعة بشكل مباشر أو غير مباشر.

لم تتمكن حركة المقاطعة حتى الآن من تكبيد الاحتلال الإسرائيلي الخسائر المادية أو المعنوية بنفس المستوى الذي حدث في جنوب أفريقيا، لكنّها تأخذ خطوات ثابتة وإن كانت بطيئة في مقاومة الاحتلال واستعمار فلسطين. لكنّ محاربتها تزداد شراسة وتهدف قرارات من هذا القبيل إلى ردع ومعاقبة المنظمات التي تدعم حركة المقاطعة بما فيها المنظمات اليهودية التي تعارض الاحتلال.



ضغوط مختلفة

بالإضافة إلى عمل اللوبي اليميني على مستوى القوانين، يمارس الضغط على دور النشر والمسارح ودور السينما في أحيان كثيرة لمنع عرض أعمال فلسطينية مناهضة للاحتلال أو تلك التي تحاول أن تركز على وجهة النظر الفلسطينية. وعلى الرغم من عدم تحقيقهم النجاحات دائما ومنع عرض كل ما يتعلق بفلسطين، لكنّ الضجة التي تولد قد تؤدي إلى تخويف المسارح والمنتجين بحيث يفضلون عدم لمس الموضوع من أصله. وفي أكثر من مناسبة، مارس متبرعون أميركيون يمينيون ضغوطاً على مسارح ودور عرض لوقف أو تغيير أعمال فنية لأنّها تناولت قضية فلسطين من منظور نقدي بعض الشيء. قد يبدو الأمر مستغرباً إذا ما اعتقد المرء أنّه يجري في بلد كالولايات المتحدة يتمتع فيه المرء بمساحات من الحرية الإبداعية وفصل، من الناحية النظرية، بين السياسة والحيز الإبداعي وحريته. لكنّ التدخلات لا تأتي عن طريق قطع أموال دعم فيدرالية فحسب أو التهديد بذلك، بل قد تأتي عن طريق التهديد بسحب الأموال الخاصة وهي التي تعتمد عليها المسارح الكبيرة ودور الأوبرا والمتاحف. فالمتبرعون كالآلة هنا. وهذا ما حدث في أكثر من مناسبة على سبيل المثال في خريف 2014 عندما اضطر القائمون على أوبرا "موت كلينغهوفر" في مسرح المتروبوليتان الشهير في نيويورك لشطب أو تغيير مقاطع بعد تهديد مانحين لدار الأوبرا بسحب تبرعاتهم لأنّ العرض لم يوافق الرواية الإسرائيلية الرسمية ويقوم بأنسنة الفلسطيني. كما يحاول أن يسلط الضوء على النكبة الفلسطينية من وجهة نظر فلسطينية. أمر مشابه حدث عندما ألغي عرض لمسرحية مقتبسة عن أحد أعمال غسان كنفاني، قبل سنة تقريباً، إذ ألغى أحد المسارح تعاقده مع المؤلفين، وهما الفلسطيني إسماعيل خالدي والأميركية نعومي ولاس، لخضوعه لضغوط المانحين.

استهداف

لكنّ الضغوط لا تأتي فقط على شكل وقف الدعم المادي الرسمي وغير الرسمي لمؤسسات أكاديمية أو ثقافية، بل إنّ بعضها يصب في خانة محاولة تدمير الحياة المهنية لأكاديميين ومحاولة حرمانهم من التثبيت، كما حصل مع الأكاديمي ستيفن سلايطة وهو من أصول أردنية، إذ خسر الأخير عقده بالفعل بسبب تغريداته خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة. وقد لا يبدو للوهلة الأولى مستغرباً أن يتم استهداف داعمي القضية الفلسطينية وحقوق الإنسان من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين. لكنّ اللوبي اليميني والصهيوني ذهب أبعد من ذلك حين دشن موقعاً على الإنترنت يستهدف الناشطين، خصوصاً الشباب، ويدعى "كناري ميشين". ويمول الموقع المستوطن المتطرف جوناثان بيش، بحسب ما كشفت جريدة "هارتس" الإسرائيلية. ويملك بيش شركة تعمل في مجال "الخدمات البحثية وجمع المعلومات وتدشين مواقع الإنترنت" تسمى بـ "رويال ريسرتش". ولسنوات كان من غير المعروف من يقف خلف هذا الموقع.



ويشير طارق راضي، وهو أحد الأشخاص الذين ورد اسمهم على الموقع، في حديثه لـ "العربي الجديد"، إلى أنّ الأمر كان مخيفاً بالنسبة له، ليس بسبب الاتهامات غير الصحيحة فقط، لكنّه تفاجأ من كمية المعلومات التي كانت متوفرة عنه في مكان واحد. ويبدو أنّ الموقع يجمع المعلومات بطرق تشبه المؤسسات الاستخباراتية. ولا يكتفي الموقع بنشر أسماء النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان الفلسطيني وإنهاء الاحتلال، ووسمهم بأنهم من كارهي أميركا أو اتهامهم باللاسامية، بل ينشر أسماء الجمعيات والمنظمات الطلابية التي عمل بها الشخص أو ساعد في تأسيسها. أضف إلى ذلك يضع قائمة بأسماء الأصدقاء والمقربين منه والذين يعملون معه في نفس المجال. إضافة إلى الشعور المرعب بأن الشخص مراقب في كل صغيرة وكبيرة، فإن احتمالات أن تؤثر هذه المنشورات سلبا على الحصول على منح أكاديمية أو حتى الحصول على وظائف تصبح عالية. فأي شخص يمكنه الدخول إلى الموقع والبحث عن اسم شخص آخر دون أن يدري أحد بذلك مما قد يقلص حظوظ هؤلاء بالحصول على منح أو حتى وظائف إذا كان شخص يميني على إحدى تلك اللجان التي تأخذ القرارات. ويلفت راضي كما غيره من المتضررين الانتباه إلى أن الحملة تركز بشكل خاص على الجامعات الأميركية، دون أن تقتصر على الطلاب الجامعيين بل تستهدف الأساتذة وخاصة هؤلاء الذين قد يكونون وقعوا داعمين لحملة المقاطعة. ويحذر الموقع طلاب تلك الجامعات من احتمال منعهم من أخذ حصصهم، ناهيك عن مضايقتهم. وقد يصل ذلك إلى الاتصال بأماكن عملهم والتحريض ضدهم. ويزداد الأمر تعقيداً لهؤلاء الذين يعملون على مواضيع متعلقة بفلسطين، فهناك احتمالات مرتفعة لمنعهم من دخول جامعاتهم بعد ظهورهم على قائمة من هذا النوع. وأفادت تقارير إعلامية بأن المعلومات الواردة في الموقع عن النشطاء والأكاديميين تستخدم كمادة أولية وتعتمد عليها سلطات الاحتلال للتحقيق مع النشطاء الأجانب، من أصول فلسطينية أو عربية أو حتى يهودية، ومنعهم من الدخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وللمرسوم تبعات خطيرة في السياق الأكاديمي لأنّه يشكل تهديداً لحرية التعبير والبحث والدراسة. وقد وجّه اتحاد دراسات الشرق الأوسط لأميركا الشمالية، وهو أكبر وأهم جمعية في هذا الحقل، ويضم آلاف الأكاديميين والباحثين من مختلف أنحاء العالم، وجّه رسالة استنكار إلى ترامب، بالنيابة عن الأعضاء ولجنة الحرية الأكاديمية. وعبّرت الرسالة عن القلق الشديد من أنّ المرسوم يهدد الحق في حرية التعبير ومبادئ الحرية الأكاديمية التي يضمنها الدستور الأميركي وأنّه ستكون له تبعات خطيرة على الإنتاج المعرفي. وأشارت إلى أنّ المرسوم يخلط بين نقد الصهيونية وسياسات دولة إسرائيل ومبدأ معاداة السامية. وأضافت الرسالة أنّ المرسوم يشجّع الحملات التي تشنها جهات غير أكاديمية على حرية التعبير والحق في النقد. وطالبت الرسالة ترامب بإلغاء المرسوم فوراً.