هيبة الدولة

هيبة الدولة

11 مايو 2016
+ الخط -
فجأة، أصبح القلق على "هيبة الدولة" متواتراً، كثيراً، يبوح به الجميع، مع أن بعضهم يردّده بشكل ببغاوي، ينقله من مسموعاته، من دون أن يعرف خلفيات هذا التعبير وفحواه.
بدأ هذا بعد أن اقتحم مئات (وربما آلاف) المتظاهرين (يقودهم طرف سياسي محدّد) مبنى مجلس النواب العراقي، أواخرَ أبريل/ نيسان الماضي، احتجاجاً على تأخره في التصويت على حكومة التكنوقراط، ومماطلته في "الإصلاح"، تحت تأثير المنتفعين من "المحاصصة"، وهو الحادث الذي وصف بأنه "اعتداء على هيبة الدولة".
أضع كل هذه التعبيرات بين قوسين، لأنني أريد أن أتعامل معها بشكل محايد، بما هي مفاهيم ودعوات ورؤى سياسية، لأطرافٍ سياسيةٍ مختلفةٍ ومتناقضة، بغض النظر عن موقفي من هذه المفاهيم، الذي كتبته سابقا، وسأستمر في الكتابة فيه. وفضلا عن ذلك، لا يريد هذا المقال أن يدخل في سجالٍ على هذه المفاهيم، ولا يريد أن يحلل السياقَ السياسي الذي حصل فيه اقتحام مبنى مجلس النواب، وكاتبُ هذه السطور يزعم أنه متابع، وذو صلة ببعض كواليس السياسة العراقية.
يحاول هذا المقالُ أن يستكنه مفهوم "هيبة الدولة" الذي غمرنا فجأة، وأصبح متواتراً وكثيراً، يبوح به الجميع.
أتبنى، دائماً، مقاربةً تحلّل المفاهيمَ الدائرة في التداول السياسي، لا بوصفها مضامين جاهزة، مطلقة، محدّدة سلفاً ومقنّنة، بل من جهة أن معناها يتشكّل من سياقها، ومن الكيفية التي تستعمل فيها.
المفارقة، في هذا المفهوم، أنه بدا، بالشكل الذي استُعمِل فيه في الأيام الأخيرة، شديدَ الاختزال، ذلك أن "هيبة الدولة" بدت كأنها مكثّفة في هذا المبنى/ المؤسسة (مجلس النواب). ولذلك، لم تسقط هيبةُ الدولة، بحسب هذا المنطق، حين احتل تنظيم إرهابي ثلثَ مساحة البلاد والمدينةَ الثانية فيها، ولم تسقط هيبةُ الدولة، العاجزة، واللامبالية بأربعة ملايين نازح ومشرّد، أخرجهم العنفُ من ديارهم، منذ نحو ثلاث سنوات، ولم يستطيعوا العودةَ إليها، ولم تسقط هيبةُ الدولة، التي أصبحت أراضي سيادتها ممراتٍ سهلةً لجيوشٍ أجنبية، ومليشيات، ومخابرات دولية، وعملاء، ومقاتلين أجانب. عن أية هيبةٍ يتحدثون؟ بل عن أية دولةٍ يتحدثون؟
هذا المبنى، وحده، هو ما يختزن هيبة الدولة، حتى وإن كان هو المكان الذي تُطبَخ فيه أقذر صفقات الفساد السياسي في العالم.
يُحاجج بعضهم بأن البرلمان، في كل الأحوال، هو رمز سيادة الدولة، بما أنه المؤسسة الجامعة لممثلي الشعب المنتخبين. وأتفق مع هذه الحجة، لو كنا في دولة مستقرة. ومن ثم، يكون مثلُ ما جرى من اقتحام لمبنى مجلس النواب اعتداءً على هيبة الدولة التي لم يشُبها سوى هذا "الاعتداء"، في حين أننا أمام دولةٍ انتهكت وأهينت هيبتُها مئات المرات، وبأشكال مختلفة.
ليس الأمر، إذن، قلقاً على هيبة الدولة، المعتدى عليها، كما يجري تصوير الأمر، لأنه كان يفترض، منطقياً، أن يُعبَّر عن هذا القلق مئات المرات، بقدر ما انتهكت هذه الهيبة. وجزء كبير ممن يعبرون عن هذا القلق تعد "اعتداءات" مماثلة جزءاً من تاريخهم الثوري. وكلنا، تقريبا، نمجّد أفعالا مماثلة، بوصفها جزءاً من حركات احتجاج حقوقية، قد يكون بعضها ثوراتٍ أو انتفاضات. ومن ثم، لا يتبع القلقُ على هيبة الدولة مبدأ عاماً، بقدر ما يتبع مصالح محددة.
الأكثر تراجيدية أن مَن يستعمل هذا التعبيرَ يبدو أنه لا يعرف شيئاً خارج المنطقة المحصّنة التي يعيش فيها. وفي الحقيقة، القلق على هيبة الدولة تعبير حبيسي المنطقة الخضراء، وهذا هو خطاب المنطقة الخضراء التي لم تعد تعرف شيئاً عما خارجها، عن هذا البلد الشاسع الذي سقطت هيبتُه مئات المرات، وهم حكّامُه. المنطقة الخضراء لا تعرف شيئاً عن الذين اقتحموها من خارجها، وهم "الشعب"، بمعنىً من المعاني، مصدر السلطات وصاحب التفويض. وحينما نتحدث عن "اعتداء" على هيبة الدولة، قام به "الشعب"، نكون قد شيطنّا هذا الشعب، تماماً كما يفعل كل المستبدين الذين يصبحون، في لحظةٍ، أسيري الأسوار التي تحميهم من الشعب، فلا يعرفونه، ويجهلونه.
أحد أبشع المستبدين العرب خاطب الشعبَ الذي ثار ضده بالسؤال: من أنتم؟ واليوم، لا يملك السادةُ نواب العراق، وأصحابُ الخطاب عن "الاعتداء على هيبة الدولة" إلا أن يواجهوا أبناءَ الشعب المساكين بلوثة الاستفهام القذّافية نفسها: من أنتم؟
795C5AFE-B476-4BF0-BDDF-64D4E8AB3793
795C5AFE-B476-4BF0-BDDF-64D4E8AB3793
حيدر سعيد

باحث عراقي في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية"

حيدر سعيد