وللخبرة حضور لافت

وللخبرة حضور لافت

27 أكتوبر 2019
+ الخط -
لا يُفهم من الحديث عن أخطاء الخبراء وزلاتهم، وما يعتوِر بعض قراراتهم واستشاراتهم من نقصان، لا يُفهم من ذلك أننا ندعو لغسل الأيدي منهم، أو التمرد على كل ما اكتسبوه من تجارب وخبرات. المقصود الرئيس أن نوازن في تصرفاتنا، وأن نضع نصب أعيننا أن آراءهم احتمالية وليست قطعية، وبهذا نفيد منهم ولا نحرم أنفسنا من هامش المغامرة أو المخاطرة والبحث عن أراضٍ جديدة.

في بحثك عن مساحات غير مألوفة، ربما تكتشف رأس "رجائِك" الصالح، أو تفسح المجال لقارات جديدة من الفكر والأدب والثقافة، بل وللحياة بكل أصنافها وأطيافها؛ فلا تحجِّر واسعًا ولا تزهد في كنوزٍ تركها لك من سبقوك، واجمع بين الحسنيين، ولا تكن كمن زهد في رُخص الله وعضَّ بنواجذه على الفرائض وحدها، بينما في الحديث "إن الله يحب أن تؤتى رُخصه، كما يحب أن تؤدى عزائمه".

هذا سُحيم بن وَثيل الرياحي يرفل في طوقه الخامس، طوى ثلاثة عقودٍ يعالج الشعر، لكنك تراه الآن وقد احدودب ظهره، وأعارته السنون قوسًا رغمًا عنه، يدب على الأرض دبَّ الهلال، لا يجاري البيضاء في اكتمالها وإشراقها ونضارة وجهها. يمضي في الطرقات لا يلوي على شيء، لا يهمه الآن أن يؤذي أحدهم، ولا أن يدافع الناس شيئًا؛ ففي أخريات العمر يزهد المرء في أمورٍ كثيرة.

لكن الإنسان -وإن سالم الناس- لا يضمن السلامة، ولا يُعطى صكَّ المسالمة، ولذلك لما اجتمع بشر الحافي مع أحمد بن حنبل -رحمهما الله- قال ابن حنبل: يا بِشر! العافية عشرةُ أجزاء، تسعةٌ منها في التغافل؛ فرد عليه قائلًا: بل كلها في التغافل! وفي مشهدٍ آخر، يسأل بعضهم أحمد بن حنبل: يا إمام! كيف السلامةُ من النَّاس؟ قال: أن تعطيهم ولا تأخذ منهم، ويؤذونَك ولا تؤذيهم، وتنهض بمصالحهم ولا تسألهم شيئًا، وليتك تسلم!


فإذا عدنا لمشهد سُحيم الرياحي، رأيناه يمضي في سبيله لا يناوش الناس، لكن شابين أقبلا عليه وراق لهما أن يتلاعبا به، وزاد من إصرارهما أن الرياحي شاعر، وهما يدوران في الدائرة ذاتها وإن لم يبلغا في الشعر شأو الرياحي، وفي المثل العامي "ما يكرهك إلا ابن كارك"؛ فتهامس الشابان: اسمع يا أخوص! ما رأيكَ... إن الضحك يغلبني! ليرد عليه صاحبه: قل ما عندك، وما يضحكك يا أخرق؟

الخاء تضحكني! أما وجد أبوك غير الخاء؟ يسميك الأخوص؟ ثم تصفني أنت بالأخرق؟ ماذا بينكم وبيك الخاء يا صاحبي؟! فينهره صاحبه وقد رسم على وجهه ملامح الجد والخطورة: دعك من هذه السفاسف، وركز في المهمة ولا تضيع الفرصة كعادتك؛ يجب أن نقضي عليه الآن، وإلا فلا قيمة لنا ولا كرامة. واستطرد الأخوص: اسمعني أيها الأُبيرد! ولن أعلِّق على اسمك ولا التصغير الوارد فيه؛ لأن لدينا ما يشغلنا عن ذلك، ها قد اقترب منك فابتدره أنت، ثم اترك لي دفة الحديث وسأكفيك أمره.

يرفع الأبيرد عقيرته منشدًا بيتًا للرياحي، ويتعمد كسر البيت واللحن فيه، ثم يسأل الأخوص ساخرًا: تُرى لمن هذا البيت الركيك؟ فتضاحك الأخوص وأشار إلى الرياحي قائلًا: لا علم لي، لنسأل هذا الشيخ! قالها مشيرًا إلى الرياحي، فلم يلتفت الرياحي إليهما، وعلى طريقة أبي الطيب "وأَتْعَبُ مَنْ نَادَاكَ مَنْ لا تُجِيِبُهُ"؛ فتذمر الأخوص وامتقع لون صاحبه، ونهض الأخوص فسدَّ الطريق على الرياحي، وأراد الرياحي أن يتفادى الصدام فولاه قفاه، لكن الأبيرد لم يترك له فرصة.

رأى الرياحي نفسه بين شابين من شباب صنعته، يريدان أن يرضيا غرورهما وأن يثبتا لنفسيهما قبل غيرهما أنهما أفضل من هذا الكهل، لم يشأ أول الأمر أن يجاريهما في صبوتهما وطيشهما، إلا أن لكل شيءٍ حدًا، وما زاد عن حده انقلب إلى ضده. بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين؛ فقال الرياحي وبصوت لا عنف فيه ولا غضب: ماذا تريدان؟ صرخا في نفسٍ واحد: أن تشهد لنا بالموهبة والتقدم الشعري عليك!

تنهد الرجل محافظًا على هدوئه، وطالع صفحتي وجهيهما طويلًا دون أن ينطق، أراد أن يتلاعب بأعصابهما وأن يطيل ترقبهما، ثم قال: إنكما جائعان! وكشر الأخوص عن نابه، لكن الشيخ أشار إليه براحة يده أن انتظر حتى أكمل فكرتي؛ فلم يجد الأخوص بدًّا من الإذعان ولو على مضض. وقال الشيخ: إنكما جائعان إلى الأضواء والشهرة وتصدر وسوم و"تريندات" تويتر، وهذا حقكما ليس لي أن أنازعكما فيه، ولا بأس عندي أن أكتب لكما شهادتي تقدير، أو أن أسجل لكما مقطع فيديو يوثِّقُ سبقكم الشعري.

جحظت عينا الأبيرد، وأوشك أن يحتضن الأخوص حضن الأبطال المغاوير، وأراد أن يعيد -مع صاحبه- مشهد الأستاذ عزت العلايلي ونبيل الحلفاوي مع رفاقهما الأشاوس، ويصنعا صنيع الأبطال، لكن الأخوص غمر له بطرف عينه أن تمهّل حتى ننتزع منه الاعتراف، وعندها سنقلب الساحة مهرجانات وأكروبات ونعيد مولد "أبوك السقا مات"، من "باب البحر" إلى "حمام التلات".

وقال الأبيرد للرياحي: "طب انجز! عندها سبوبة وورانا أشغال"؛ فقال الشيخ وقد لاحت على محياه ابتسامة هادئة: "ماشي يا عم النجم"، سأسوق لكم أبياتًا من ديواني الجديد، وهي أبيات ركيكة -وَفْقَ زعمكم- وعليكم أن تقولا بيتين، لا بل قولا بيتًا واحدًا على الوزن والقافية نفسيهما، ولكما ما تأمران به من الوثائق والمستندات والصكوك التي تثبت تقدمكما عليَّ وعلى أمثالي.

مطَّ الأخوص شفتيه ورفع حاجبيه، ثم قال للشيخ وهو يحملق فيه بلا اهتمام: هات ما عندك! قال الشيخ: حسنًا (أنا ابن جلا وطلَّاع الثَّنَايَا/ متى أضع العِمَامَةَ تعرفوني/ وإن مكاننا من حِميريّ/ مكانُ الليثِ من وسطِ العرين/ وإني لا يعودُ إليَّ قِرني/ غَدَاةَ الْغِبِ إلا في قرينِ/ وماذا يدَّري الشعراء مني/ وقد جاوزتُ حدَّ الأربعين/أخو خمسينَ مُجتمِعًا أشُدي/ ونجَّذَّني مُداراة الشُّؤُون).

غاصت رجلا الأبيرد في الرمال، وبدا له أن يذوب ذوبان الملح في الأرض، وانطبقت شفتاهما بلحام أكسجين أو صمغٍ من النوع المستورد! وانقطعا عن معاكسة الرياحي، وفي صدرهما غصة مما صنع بهما. بعد مدة، والرجلان يحاولان أن يتناسيا الصدمة، وزارا أطباء نفسيين في العجوزة ومدينة نصر والمهندسين، لكن خبرًا عاجلًا نكأ الجرح الغائر، وقلّب عليهما لحظات الدم الفائر، إذ نقلت الجزيرة -في بثٍ مباشر من الكوفة- خطبةً للحجاج بن يوسف الثقفي، استهلها الحجاج باستشهاد أيقظ في النفس الكوامن؛ فقال (أنا ابن جلا وطلَّاع الثَّنَايا/ متى أضع العمامة تعرفوني).

في التو واللحظة، أعلن الأخوص بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الأبيرد عداءهما السافر للحجاج بن يوسف، فضلًا عن عدائهما الأول لسُحيم بن وَثيل الرياحي! ودارت بين الفريقين معارك أدبية، أدرك الأخوص والأبيرد وحزبهما حقيقة قولهم (ليس التطاول رافعًا من جاهلٍ/ وكذا التواضع لا يضر بعاقلِ)، وأن (ملأى السنابِلِ تنحني بتواضُعٍ/ والفارِغَاتُ رؤوسهُنَ شوامِخُ)، وأن ذرة خبرةٍ تنسفُ سنواتٍ وسنواتٍ من النزق والطيش والخِفة.

دلالات