ومضات من ذكرى لاجئ

ومضات من ذكرى لاجئ

21 يناير 2015
+ الخط -

تحلق طائرته الخاصة في هذه الأثناء، فوق سهول مرج ابن عامر الفلسطينية، ينظر لها بشغف طفولي محموم، يتوسع، بنظره، عبر الأفق، محاولاً أن يرى مشارف مدينته صفد، لكن من دون جدوى، فهي ما زالت بعيدة من نقطة امتداد بصره، تخطر بباله فكرة ملحة، يرفع سماعة هاتف الطائرة، ليتحدث مع غرفة القيادة، يطلب من قائد الطائرة الاتصال على سلطات الطيران في مطار اللد، لطلب إذن هبوط في المطار، يغلق السماعة ويعود ليسرح بعينيه عبر الزجاج، نحو تضاريس الوطن، كان يجدر به الوصول إلى مطار أثينا، حيث مكتب عمله الرئيسي، ليجتمع مع مدراء أقاليم شركته، بشكلٍ طارئ، لكن الفكرة التي اجتاحت عقله، هنا، أصبحت أهم من أي اجتماع، وأولوية فوق أهم البنود. عاود هاتف الطائرة ليرنّ، يمسك السماعة ويتبلغ من قبطان الطائرة، أن كل شيء على ما يرام، وأن الطائرة ستهبط خلال دقائق في مطار اللد. ينهي إجراءات الخروج من المطار بسرعة، ويستقل سيارة تاكسي خاصة، ليطلب من سائقها أخذه إلى مدينته صفد، يظل طوال ساعات الرحلة، سارحاً يقلب نظراته في كل تفاصيل طريق الساحل الفلسطيني، من يافا حتى حيفا، إلى أن تصل العربة إلى صفد، مدينته التي ولد وترعرع فيها حتى الصبا، إلى أن خرج منها مع عائلته وأهل المدينة، هرباً من عصابات "الهاجاناه".
لا تزال المدينة مطبوعة في ذاكرته، بأزقتها وأبنيتها الحجرية القديمة. كما هي، كروم الزيتون والعنب في أرض جده، التي رعى أشجارها، ولعب وركض وتشاجر مع إخوته وأبناء عمومته بين أغصانها، وتسامر في ليالي الحصاد المقمرة مع رفاقه، تحت أوراقها، والتي ما زالت كما هي خضراء يانعة تتمايل مع نسائم المتوسط المارة عبر المروج.
تشق العربة طريقها نحو منزل الميلاد الذي ما زال خط سيره مزروعاً في مخيلته، لم يغب لحظة، غاب عن المكان عقوداً تجاوزت السبعة، لكنه لا يجد صعوبة في تمييزه، وملاحظة القديم الباقي من بنيانه، وما استجد من حداثة عمرانية، لسكانه الطارئين، يتراءى له، أخيراً، بيته الموعود، كما هو فخم، جميل، ظلت أشجار التين والجوز باسقة في محيط الفناء. في هذه اللحظة، تجتاح عقله، ومضات ذكرى مرتجعة لطفولته، تمر كما شريط فيلم، بمشاهد متقطعة سريعة، تتهادى إلى مسامعه بصوت هامس ضحكات أطفال تتلاعب، تتمازج مع صوت أسطوانة قديمة، تصدح بموسيقى وصوت "أبو العلا محمد" "وحقك أنت المنى والطلب"، ترافقه الأصوات، بينما يترجل ماشياً نحو المنزل. يصل إلى بوابته ليطرقها بخفة، لا يلبث الباب أن يفتح، فتظهر امرأة بملامح غربية في عقدها الخامس، يطلب منها بلطف شديد الاستئذان للدخول، بعد أن شرح لها سائق التاكسي، بالعبرية، أن هذا الرجل التسعيني الوقور يريد فقط أن يلقي نظرةً خاطفة داخل المنزل الذي عاش فيه طفولته، لكِ أن تأخذي ما شئت من المال إن رغبت. تتردد المرأة قليلاً، لكنها ما تلبث أن توافق من دون مقابل، تغمره فرحة شديدة، تلتمع عيناه عندما يهم بالدخول، يرى بهو المنزل الذي تغير أثاثه، ولون طلائه، لكنه لم يتمايز عن ذاكرته، يتجول داخله ببطء شديد، كأنما يريد أن يملأ عينيه بكل تفصيل من أجزائه، لا تزال ومضات الصوت والصورة تهاجمه، كما الغارة على مضارب صحراوية في ليلةٍ حالكة، تتعالى أكثر أصوات ضحكات الأطفال وصوت "أبو العلا محمد"، بشكل مطّرد متواصل، يضاف إليها صوت جده القادم مع والده من حقول البلد، كذلك صوت أمه تطرق حبوب القهوة، بدلّتها الخشبية، تقتحمه، أيضاً، أصوات أخرى لم تكن موجودة، بدأت أهازيج فرح شعبي مع زغاريد نسائية تتداخل، زقزقة عصافير، صياح ديك، أصوات أغنام مهرولة إلى ينبوع تطلب الارتواء، صرخات حصادين، يسمعها كلها متواصلة، يتردد صداها مئات المرات في حاسته السمعية، تزداد الأصوات كلها صخباً وتفجراً، يكاد يمزق جدران أذنه، بينما يدخل في أثناء ذلك كله غرفة نومه. ينظر إليها، تنتابه، في هذه اللحظة، حالة هستيريا مجنونة، تجعله يحتضن الحيطان بدموع منهمرة وأنين محشرج، يقبّلها كما حبيب مودع قبل فراق أو ملتقٍ بعده.
يلتصق بالجدار، يتحسسه بخدّ وجهه المجعّد بعوامل الدهر، كأنما يريد اقتحامه والاختباء فيه، أو ليشكلا معاً جسداً واحداً، لا ينفكا بعده أبداً، يكاد ينهار من نوبة الانفعال تلك التي أصابته، لكنه يتمالك نفسه ويثبت أقدامه في أرضية الغرفة، يتوقف فجأة كل الضجيج الصوتي والوميض المرئي الذي رافقه، يطلب من السائق أن يخرجه فوراً من المكان الذي لم يعد يحتمل رؤيته أكثر، يهرول مسرعاً ليركب السيارة التي بدأت الانطلاق مبتعدة، بينما هو يجلس في مقدمتها صامتاً، يدور صوت محرك العربة في أذنه، ليعود مجدداً صوت أبو العلا محمد، ممزوجاً، هذه المرة، بصوت نحيبه ناعماً متقطعاً.

avata
avata
سامر ياسر (فلسطين)
سامر ياسر (فلسطين)