يحيى العبدالله: مهمّة الكاميرا

يحيى العبدالله: مهمّة الكاميرا

20 ديسمبر 2014
+ الخط -
يعلن فيلم "المجلس" (2014)، منذ لحظاته الأولى، عن حدثه الرئيسي الذي ستبنى عليه حكايته الوثائقية كاملةً: سيقوم أطفال مدرسة تابعة لـ"الأونروا"، في مخيم السخنة الفلسطيني في الأردن، بتشكيل برلمانين، أو مجلسين، واحد للذكور وآخر للإناث، بغرض تطوير "مجتمع" المدرسة، وحل المشكلات والصعوبات التي تعترض الطلبة. هذا هو المقترح السينمائي في فيلم المخرج الأردني الشاب، يحيى العبدالله، الذي قدّم عرضه الرسميّ الأول في "مهرجان دبي السينمائي الدوَلي".

يستمدّ مقترح الفيلم عناصره الكوميدية من حجم المفارقات التي تفترضها شروط اللعبة: أن يؤدي الصغار لعبة الكبار. تدريجياً، يدخل هذا المقترح حيّز التنفيذ، مع تدفّق الكوميديا من فطرية الأطفال في الممارسة العملية لمفاهيم كبرى كالديمقراطية والحقوق والمسؤوليات، حيث يتعاملون معها بمنتهى الجدية، ويرون فيها أداة ناجعة لتغيير واقع الحال. هكذا، تبدأ الحملات الانتخابية وينهمك الأطفال في إعداد لوائحهم وبرامجهم الانتخابية. يترافق ذلك مع تغيّرات واضحة على مستوى العلاقات بين الطلاب أنفسهم، فالترشح يقتضي علاقات تحكمها "السياسة".

هكذا، يوظف العبدالله كاميراه ضمن اللعبة المقترحة (الانتخابات)، فيلتقي المرشحين ويتحدثون عن أهدافهم وآمالهم وتطلعاتهم، لتظهر الكاميرا كعنصر خارجي، يسهم بشكل مباشر في عملية الإيهام. بالتوازي مع الاشتغال السابق، تتلصّص الكاميرا على نقاشات تلاميذ الإعدادية، فتبدو مراقباً داخلياً يخزن في ذاكرته صوراً متفرقة، كما لو أنها تلميذ يتجوّل صامتاً في ردهات المدرسة. من غرفة المستخدم، إلى عنف الأساتذة مع التلاميذ، مروراً بمصلّى المدرسة، تنمّ الصور بكليتها عن أفكار تتصارع، وتميط اللثام عن لغات اجتماعية تتأتى من الخارج، لا تلبث أن توحي بها 

قبل بدء الانتخابات، تظهر المدرسة كفضاء درامي أساسي، يبدو، للوهلة الأولى، مستقلاً عن الخارج ومكتفياً بجملة الشروط والعناصر التي يمتلكها. وما أن تنتهي الانتخابات، حتى يبدأ الأطفال بالتفكير بحل مشكلات مدرستهم، لتتلاشى الحدود الفاصلة بين الداخل والخارج. ما قبل اللعبة ليس كما بعدها، فعند البدء بمواجهة المشاكل، يصطدم الأطفال بمشاكل متغلغلة داخل سور المدرسة، ويبدأون بمواجهة قضايا عنف وتحرش وأصوليات فاعلة. إلا أن الأطفال المنتخبين يبتغون، بإصرار منقطع النظير، إكمال هذه المهام الشاقة.

هكذا، نجدهم في مشاهدهم مع الكبار (المعلمين والمسؤولين) أنداداً يحاكمون الكبار ويشيرون بأصابع الاتهام إليهم، وهو ما وجد معادلاً بصرياً له من خلال استحواذ كتل الأطفال على المركز في غالبية المشاهد المشتركة، في حين كانت كتل شخصيات الكبار تبتعد، مع مرور الفيلم، نحو أطراف الكادر وزواياه.

على مستوى الصورة، ومستوى الفاعلية في الحدث، يزداد حضور الأطفال لحظة تلو الأخرى، كما يطيح الخارج بالداخل عندما يتوجب على الأطفال البحث عن حل لمشكلتين رئيسيتين؛ الدخان المنبعث من حاوية النفايات الملاصقة للمدرسة، واستحداث صفوف جديدة لاستيعاب الطلاب. تضعهم رحلتهم خارج سور المدرسة أمام بيروقراطية قاتلة، وملفات فساد قديمة؛ أهمها أن المبلغ الذي تبرعت به إحدى الدول الأجنبية لبناء مدرستهم قد نُهب بسبب عملية تزوير قديمة في إحدى مؤسسات الدولة الأردنية، لتبقى المدرسة ملكاً خاصاً تدفع "الأونروا" تكاليف إيجارها.

يعرض الفيلم، بالتوازي مع رحلة الأطفال الذكور نحو مساعيهم، ما يحدث في برلمان الفتيات الصغيرات. تبقى الفتيات رهينات المدرسة؛ يحضرن داخل أسوارها ليقدمن اقتراحات عدة لتطوير واقعهن، من الرغبة في تغيير اللباس الموحّد، إلى الدخول في النقاشات الجريئة مع معلماتهن. والمرة الوحيدة التي سنراهن فيها خارج المدرسة، ستكون حين يتدربن على الدبكة لتنفيذ استعراضات أمام مسؤول سيزور المخيم لمناسبة مرور 60 عاماً على تأسيس "الأونروا".

هذه التحضيرات يراقبها رجل بلحية وزي سلفيين، يفتي بجواز مشاركة الفتيات دون الحادية عشرة في الدبكة، كما يقدم نفسه بصورة الشخص الذي يقطع الشك باليقين حول ما إذا كانت كلمات الأغاني ورقصات الطفلات "حلالاً" أم لا. في القسم الأخير من الفيلم، تحضر "البيئة الفلسطينية" لتخليد هذه المناسبة "العظيمة"، لكن وفق ما يسمح به "الشرع": تخرج الفتيات الماء من "البئرالفلسطيني" الاصطناعي أمام المسؤولين، ويمثلن مشهد طلب يد إحداهن في خيمة اصطناعية ويزغردن فرحاً بزواجها، وتعقد الطفلات، دون العاشرة، حلقة الدبكة.

بمشهد ذي دلالة رمزية، ينهي به العبدالله "المجلس" مختزلاً، ربما، مقولة الفيلم: بعد أن فقد أحد الأطفال الأمل بحل المشكلتين الرئيستين، يضرب، وهو في طريق العودة إلى البيت، طفلاً آخر يمر بجانبه، قبل أن تعلن صورة الحاوية المليئة بالنفايات المحروقة نهاية الفيلم.

المساهمون