التكوين البنيوي للصداقة

التكوين البنيوي للصداقة

09 مارس 2024
+ الخط -

تعدّ البنية والبنيويّة اتّجاهًا معرفيًّا وحقلًا منهجيًّا، ظهر في أوّل أمره مدرسةً لغويّة، ثمّ صار تيّاراً فكريّاً وفلسفيّاً ومنهجاً نقديّاً سائداً في القرن العشرين، وقد طُبّق هذا المنهج على مختلف الحقول المعرفيّة، من اللغة، إلى النقد والأدب، فالأنثروبولوجيا وعلم النفس، والتاريخ..، حتى صار أشبه بموضة فكريّة طاغية بحسب قول خصوم هذا المنهج أو منتقديه.

 وهو يقوم على فكرة جوهريّة ورئيسة، مفادُها أنّ كلّ ما في هذا الكون هو بنية متكاملة ضمن نسق بنيويّ أكبر منه، وأنّ كلّ ظاهرة (مادّيّة أو مجرّدة) يمكن أن تُشخّص على أساس بنيويّ؛ فلا فرق بين بناءٍ أُعدّ ليكون مشفى، وظاهرةٍ إنسانيّة مثل الصداقة؛ كلاهما يحتكمان إلى نظام بنيويّ متشابه. ومن هنا يمكن أنْ نفهمَ أنّ سنن الكون واحدةٌ،  فكما أثبت العلمُ أنّ الوجودَ يعود إلى عناصرَ كيميائيّةٍ معروفة ومحدّدة، وتتحكّم فيه قوى فيزيائيّةٌ معلومةٌ (قوى الكون الأربع)، كذلك فإنّ مجرّداتِ الحياة ومعنويّاتها تعود إلى النظام البنيويّ ذاته. ويمكن تحديدُها وتقعيدُ آليّة عملها مثلما تمكّنَ علمُ اللغة ونحوُها من تقعيد أسماء الذات والمعنى ومصادرهما وجمعهما في نظام بنيويّ لغويّ واحد، ولا سيّما أنّ البنيويّة أخذت مصطلحاتها وآليّة عملها من النظام البنيويّ للغة؛ فهو الحقل الذي شهد ولادةَ البنيويّة كما أسلفنا.

 مقاربة بنيويّة للصداقة وطبقاتها

الأصدقاء مستويات وطبقات (درجة أولى وثانية وثالثة و..)، فهم كبناء المشفى ذي الطوابق؛ أوّل طوابقه للاستعلام والمعلومات البدَهيّة وجلسات التعارف البسيطة (اسم، عمر، شكر ومجاملة، قد تراه في دخولك وترى بديلاً عنه حين خروجك، ويصادف أن تتيه عليك وعليه ملامحكما واسماكما إن التقيتما بعد يومين في مكان آخر). ثمّ هناك طابق للبوفيه (جلسة وترويح عن النفس وشرب ومزحة وضحكة). ودوماً يكون الطبيب المداوي، ذاك الذي جئت لتروي له وجعك في آخر طابق ستصل إليه. فيحدث للطيّبين البسطاء أن يرْوُوا لطابق الاستعلام قصّةَ مرضِهم وتفاصيلَ ألمِهم، ويسألونه عن الدواء (موقف مضحك للاستعلامات وصادم للسائل؛ فيضيفه وجعاً إلى وجعه).

فأنت إمّا أن تكون متعلّماً حتى تعرف كلّ طابق واختصاصه ومهامّه وحاجتك منه معرفةً نظريةً، وإمّا أن تكون عليلاً، لتجرّب وتمرَّ على الطوابق كلّها، فتفهم حقيقة كلِّ طابق.

 مقاربة التكوين البنيويّ الريفيّ

 وثمّة أناس ريفيّون، لم تعرف حياتهم ولا بيوتهم نظامَ الطبقات والطوابق؛ فالحياة كلّها في سَكَنها وعيشها وعلاقاتها تجري في الطابق الأوّل والوحيد. هؤلاء سيتعبون إذا ما أجبرتهم الأيّام على الحياة في المدينة، وسيرهقهم السيرُ على الدرج صعوداً وهبوطاً، وسيخنقهم نقصُ الأكسجين في المصعد الكهربائيّ الذي عليهم ركوبه مكرهين، وسيبدون للمدينيّ ظاهرةً إنسانيّةً متخلّفةً، ولا تجيد سجاياهم ورِئاتهم التأقلمَ مع البناء المتطوّر ذي الطبقات.

  أصحاب هذا التكوين يجسّد بنيةَ حياتِهم وعلاقاتِها قولُ أبي الشمقمق في وصف داره وتكوينها البنيويّ:

بَرَزَتْ مِنَ المَنازِلِ القِبابِ... فَلَم يَعسُرْ عَلى أَحَدٍ حِجابي

فَمَنزِليَ الفَضاءُ وَسَقفُ بَيتي... سَماءُ اللَهِ أَو قِطعُ السَحابِ

 فَأَنتَ إِذا أَرَدتَ دَخَلتَ بَيتي... عَلَيَّ مُسلّماً مِن غَيرِ بابِ

لِأَنّي لَم أَجِدْ مِصْراعَ بابٍ... يَكونُ مِنَ السَّحابِ إِلى التُّرابِ

 وَفي ذا راحَةٌ وَفَراغُ بالٍ... فَدَأْبُ الدَّهرِ ذا أَبَداً وَدابي.