حين أصبحت "داعشية"

حين أصبحت "داعشية"

12 مارس 2022
+ الخط -

تبدو الحياة وردية وتستحق الاهتمام، حينما تجد فيها صديقاً حقيقياً لا تبدله المواقف أو الظروف، فالصداقة هي أن تؤنسك روحٌ عابرة. هذه الحقيقة التي لمستها حينما وجدت "سماح" (اسم مستعار) صديقة وجارة. تبعدني عنها فقط بعض السنوات في العمر، وتجمعني بها كراسي المدرسة وزوايا المنزل وضحكات الصباح والمساء في لقطات خالدة كنا فيها نسكب همومنا ومشاكلنا ومعها دموعنا في غُرف المنزل وندهسها بأقدامنا الراقصة على أنغام الفن الصنعاني الجميل. تنتمي صديقتي إلى عائلة الجنيد، العائلة الأولى والكبرى في مدينة تعز من حيث الانضمام إلى مقاتلي جماعة الحوثي، ووالدها هو أحد القياديين العسكريين لدى الجماعة، الأمر الذي لم يُشكّل فارقاً لدي قبل وبعد دخول الجماعة إلى مدينة تعز في 2015.

حتى أواخر مارس/ آذار من عام 2015، وهو تاريخ أول ضربات جوية للتحالف العربي على مقرات جماعة الحوثي في المدينة، كنا نتناول الأحداث على طاولة نقاشات نسوية من باب التنفيس لا أكثر. تولّد الأسى من عمق تلك الأحداث التي أظهرت لي وجهاً آخر لسماح حين وصفتني بالداعشية على خلفية تعليق لي في مساحة حوار غير مقيدة برأي أو تعبير، فقط لأني ناهضت مشروع جماعة مبنية على دمار البلد. هذا الصك الذي يلتصق بأي شخص ينتقد جماعة الحوثي، تبعه سيل من التُهم والإهانات والشتائم، ووصل أخيراً إلى القطيعة. قطيعة لم تكن أبداً في مخيلتي لعلاقة صداقة وأخوة قوية استمرت 12 سنة. لم أجرب بعدها إصلاح ما أفسدته الرذيلة الحوارية كونها شدة وتزول، لكني لم أستطع منع نفسي من الذهاب إليها وتقديم واجب العزاء لها بعد مقتل شقيقها في إحدى معارك تعز. وأحزنني جداً رفضها استقبالي وقبول عزائي ومواساتي.

تتدرج مشاعر الحُزن من حزن أكبر، فيتصاغر ليتحوّل إلى مسحة تبقى في ندبات القلب. لكن مع سماح، حفرت جذور الحزن في قلبي مكاناً لها، ووصلت إلى القاع حينما استلمتُ إنذاراً بالطرد من مالك المنزل (أحد المنتمين إلى جماعة الحوثي) الذي أقمت فيه أثناء نزوحي إلى العاصمة صنعاء بحجة أننا "دواعش". وتم اعتقال شقيقي في قسم الشرطة لأيام بنفس التهمة. اضطررت بعدها لتقديم إثباتات خطية من مختار حارتي في تعز، تفيد بأني وأسرتي بعيدون كلياً عن سلوك أي جماعة دينية أو سياسية. بعدها تم الإفراج عن شقيقي وبقينا في المنزل. لكن مالك المنزل لم يكف عنا الأذى، قطع عنا كابلات الكهرباء وأقفل أنابيب المياه، واستمر بالتهديد بالطرد إذا تأخرنا بدفع الإيجار ليوم واحد، وإهانتنا حتى غادرنا المنزل والحي بوجعين؛ وجع أن تعيش هذه الظروف في المدينة الأكثر تعايشاً واحتضاناً لكل أبناء اليمن (صنعاء) مهما كانت مِلّتهم، ووجع كان فيه الحزن قد أرخى بثقله حين اكتشفت أن كل هذه الإهانات والوجع كان يقف وراءها شقيق صديقتي الذي اعترف ابن مالك المنزل بأنه وراء الوشاية.

أي وجعٍ يحتمله الإنسان إذا فقد إنسانيته؟ وماذا سيتبقى لنا للعيش عليه إذا تمزق نسيجنا المجتمعي وولدت الوحشية؟

لم تتوقف الحرب عن تمزيقنا. فمنزل سماح تعرض للحرق والتدمير من قبل جماعات مؤيدة للشرعية المعترف بها دولياً بعد خروج الحوثيين من تعز، فأصبحت بعد ذلك أكثر شراسة وعنفاً، وهذا ما بدا جلياً في خطاب الكراهية الطافح في منشوراتها على صفحة "الفيسبوك" وحالات "الواتساب". أنا أيضاً تعرض منزلي القريب من منزلها لسقوط قذيفتين أطلقتهما دبابة حوثية عليه، وتم تدمير جزء كبير منه ونهب محتوياته، لكني لم أستطع أبداً توسيع الفجوة أكثر.

أي وجعٍ يحتمله الإنسان إذا فقد إنسانيته؟ وماذا سيتبقى لنا للعيش عليه إذا تمزق نسيجنا المجتمعي وولدت الوحشية؟

هذه الحرب الذي ندفع ثمنها باهظاً من إنسانيتنا ودمائنا لم تكن بنا يوماً رحيمة حتى مع أقرب الناس لنا. نخسر أبناءنا شرقاً وغرباً، وتصرخ هويتنا شمالاً وجنوباً: "أقيموا الحياة وسدوا الخلل وقرّبوا بين أوجاعكم". لكننا لا نسمع، لا نأبه!

مضت سنوات من فواجع الحرب وتزوجت صديقتي ثم أنجبت ولم أستطع مشاركتها أفراحها كما لم أستطع نسيان الحياة الجميلة التي جمعتني بها قبل الحرب، كنتُ أكتب مئات رسائل الحنين والشوق واللهفة. كنت كُل ليل أنبش هذا الصدر المثقل بالحنين، أتهجى سطور الأشواق، وأبني ملايين الأحلام بأن أصحو من كابوس الحرب يوماً، أنثرها على دربي حتى يعشب ويصبح عامراً بالتلفت الجميل، لكني كنت أمحو كل ذلك بضغطة زر خوفاً من تأويلات مجحفة بحق مبادرتي والوقوع في مشاكل أخرى، خاصة بعد عودتي إلى منزلي بعد خمس سنوات من النزوح، تشاركت فيها معها مأساة فقدان الأهل ومعاناة تدمير المنازل ومشاكل النزوح.

في كل مرة كنت أصنع لها باباً للعودة إيماناً بأن الحرب ستنتهي وستنتهي معها مآربها وأشواكها. كنت أطمئن عليها مراراً عبر أصدقاء مشتركين، والذين طلبوا مني يوماً التدخل لحل خلاف قوي وشائك بينها وبين زوجها الذي رفضت العودة معه إلى منزله في تعز، خوفاً من رفض المجتمع لها كونها تتبع جماعة الحوثي فهددها بالطلاق وحرمها من طفلها، لكني وقفت عاجزة عن تقديم أي مساعدة وقلبي يتفطر ألماً لطلاقها، ولما أفرزته الحرب في نسيجنا المجتمعي.

جميعنا ضحايا هذه الحرب ويدها التي طاولت التماسك الاجتماعي وقوّضته فتحولت هويتنا اليمنية إلى زيدية وشيعية وشمالي وجنوبي وحوثي وداعشي. وتجاوز التشظي الاجتماعي نقاط التفتيش المتوزعة في أنحاء اليمن والتي باتت بؤرة انتهاكات متعددة.

استرجعت شريط الذكريات هذه، وأنا أستمع لحديث دموع سيدة في منتصف العمر عن أبنائها الذين جمعتهم الحرب والتعصب الفكري السياسي في معركة واحدة فقتل أحدهما الآخر. وتحولت الأخوة إلى عداوة بفعل الحرب وأدواتها الخطرة، أي بشاعة يمكن أن تنتجها الحرب أكثر من هذه.

10239013-1BB8-4CF7-B719-E44FB6033BA4
أحلام المقالح

مواليد اليمن - تعز... كاتبة صحفية وقاصة، لها عدة مقالات وتقارير مترجمة، منشورة في صحف محلية وعربية ولها عملان أدبيان: كتاب "ومرآة عمياء"، ورواية "طيرمانة".