مات عبد الناصر
مات عبد الناصر
قابلنا في مشفى دويرينه للأمراض العقلية عدداً لا بأس به من هذه الحالات الصارخة بالجنون، أهمها على الإطلاق الرجل المدعو أبو عبدو، والذي يُعرف في المشفى باسم ملك الكون. وواضح من خلال اللقب أنه مريض بما يسمونه في علم النفس باسم "جنون العظمة".
كنا في ضيافة المدير الإداري للمشفى، وهو صديق دراسة قديم يدعى محمد، وكانت الأيام قد فرقتنا طويلاً إلى أن التقينا هنا بالمصادفة البحتة.
ودخل علينا "ملك الكون". إنه رجل في الخمسين، لحيته نابتة، ويرتدي كلابية شتوية، ويعتمر قبعة صوفية زرقاء، طرزت عليها بالمخرز نجمة خماسية بلون أحمر.
كانت آثار البلل على وجهه ويديه، توقف عند الباب، وقال: أهلاً وسهلاً بالشباب، أنا ملك الكون أبو عبدو. عذراً، تأخرت عليكم بسبب الحمام.
قال له محمد: ألم تعرف الفنان عمر حجو؟ هذا الذي يطلع على شاشة التلفزيون.
فقال لمحمد دون أن ينظر إليه: لماذا تكلمني؟ أنا مخاصمك!
وجلس قريباً مني. ناولته سيجارة فأشعلها بقداحة اعتاد أن يتركها في يده دائماً، وقال: الناس مجانين، حاشاكم، يعيشون على الهامش. الكون مترامي الأطراف، لا بداية له ولا نهاية. بدايته حيث أقف أنا، ومن لا يصدق خله يحمل المسطرة ويقيسه. الذرة تتناهى إلى الصغر، وليس إلى الصفر. لأن الصفر هو العدم، والوجود والعدم لا يجتمعان معاً. التفاحة الفاسدة تفرخ كائنات حية، وأما التفاحة السليمة فتمتاز بالعقم؟ كان لي صديق اسمه ممتاز حجو، كنا نلعب معاً بالشطرنج، وكنت أغلبه دائماً. الآن ونحن جالسون في غرفة هذا الرجل الذي لا أحبه ولا أطيقه (يقصد المدير الإداري)، فإن عشرات التفاعلات تجري ونحن لا نعرف بها. أنا قلت ذلك للألمان ذات يوم، فسخروا مني، فاستغربت ذلك مع أن ما قلته لهم هو الحقيقة.
سأله الفنان عمر: ماذا قلت لهم؟
قال: قلت لهم إن حضارتهم تافهة لأنها قائمة على المفكات والبراغي والعزقات، وكلها مصنوعة من الحديد. شيء قبيح أن تكون الحضارة من حديد. حضارة الولايات المتحدة أحلى. لأنها تقوم على البارود. الأمة التي لا تروق للولايات المتحدة تطلع لها في الطائرات: بم، بم، بم بم، كل قنبلة تهدم جبلاً.. حتى تجعلها "سمهدانة". أنا شخصياً ما عندي مانع أن يفنى عدد من البشر بالمذابح، طالما أن القس مالثوس قد تنبأ بذلك، ودعا إليه. ولعلمكم فأنا ناقم على البشرية. لذلك أجريت، ذات مرة، تجربة: قتلت البشر كلهم وتركت عشرة آلاف امرأة جميلات على قيد الحياة. طبعاً، تركتهن وحيدات معي، لأنني أريد أن أسترد حقوقي من هذا العالم.
مرة كنت في المريديان، أحمل صينية وعليها ثلاثة فناجين قهوة. الأرض ناعمة، فتزحلقت ووقعـت، والقهوة انطرشت على الجدار وشكلت عبارة "عاش أبو عبدو، ملك الكون". لا تستغربوا ذلك لأن رجلاً كان يعيش في حي الكلاسة بحلب، كان يصوب مسدسه أيام الوحدة إلى الجدار ويطلق الرصاص بدقة حتى يكتب بالرصاص "عاش جمال عبد الناصر". ومع ذلك فجمال عبد الناصر مات، يعني أن الرجل أبو المسدس كذاب، فطالما أن عبد الناصر مات فهذا يعني أنه ما (عاش)! يعني، خيو أنا ما عم بفهم، شلون مات وشلون عاش؟