ماذا أحدثت فينا عملية طوفان الأقصى؟

ماذا أحدثت فينا عملية طوفان الأقصى؟

02 نوفمبر 2023
+ الخط -

لا أبالغ بالقول إني ما زلت إلى الآن، وربما كلاجئين فلسطينيين وعرب، نعيش ما أطلق عليه حالة "الدهشة والغرابة.. والأمل الذي كان بعيداً وأشبه بالمستحيل" في أيامنا هذه من معركة "طوفان الأقصى".

لقد أصبح يحدونا الأمل، رغم الألم، بالعودة إلى فلسطين، ليس "ربما"، بل قريباً جداً، وأن ما عايشناه من حالة الاشتياق لترابها، والاكتفاء قصراً برؤيتها عبر الشاشات، أو من بعيد على الحدود، سيصبح واقعاً. سنلمس تراب فلسطين بأيدينا، ونصلي في الأقصى، ونحرر مقدساتنا الإسلامية والمسيحية، ونعانق أهلنا في فلسطين، ونعود إلى أراضينا، وربما إلى دكان جدي النجار في مدينة عكا.

ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول أعاد لنا كرامتنا، بل كرامة كل عربي، التي حاول الاحتلال الإسرائيلي أن يدوس عليها في كل مكان من فلسطين، ذلك أن مشاهد السابع من أكتوبر لن تنسى، فهي حفرت عميقاً في وعينا أن هذا الجيش الذي "لا يقهر" انهار، وأصبح أسيراً ذليلاً، يساق كالنعجة، ودمرت تحصيناته ومنشآته العسكرية في غلاف غزة.

ما حدث في السابع من أكتوبر، أعاد لنا كرامتنا، بل كرامة كل عربي، التي حاول الاحتلال الإسرائيلي أن يدوس عليها في كل مكان من فلسطين

 بناء على ذلك، فهذه المرة، معنوياتنا مرتفعة، بل ومرتفعة جداً، تبلغ عنان السماء، فأخبار المقاومة تبشر بكل خير، فجنود الاحتلال الغزاة في قطاع غزة يسقطون بين قتيل وجريح على أيدي المقاومين الشجعان. ولم يحقق الاحتلال حتى يومنا هذا أي إنجاز يذكر، سوى قتل الأطفال والنساء، وتدمير المستشفيات، ودور العبادة والمحلات التجارية، وحتى لو قام الاحتلال بالسيطرة على مساحات واسعة من القطاع، فسيخرج منها محملاً على التابوت، فغزة مقبرة الغزاة.

أما صواريخ المقاومة التي أطلق عليها البعض يوماً ما بسخرية "مواسير"، فأصبحت تطاول كل فلسطين المحتلة، وأدخلت بلينكن ونتنياهو إلى الملاجىء، وبالرغم من كل التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية من طائرات مسيّرة، وطائرات حربية لا تغادر سماء القطاع، والتدمير، والاجتياح، فإن المقاومة حريصة على إطلاق تلك الرشقات، والتي تحولت من "مواسير" إلى صواريخ، صنعت في فلسطين، تلاحق المستوطنين في كل أماكن وجودهم، ويا للسخرية، أصبح البعض منهم "نازحاً، ومهجراً، ولاجئاً"، وهي مصطلحات اعتدنا عليها في منطقتنا.

لقد عرَّت عملية "طوفان الأقصى" الغرب، الذي يقدم لنا نفسه منبراً للتنوير والحضارة، ومقدساً لـ"حرية الرأي والتعبير"، وحريصاً على حقوق الإنسان، إلا في فلسطين. فلدى شعوره أن الكيان الإسرائيلي أصبح مهددا وجودياً، أعاد لغة لاستعمار من جديد، فأزال الكفوف عن يده الملطخة بدماء العرب، وكشر عن أنيابه، فلم يطلق موقفه القمعي المعتاد من غير أن يكترث للضحية (الفلسطيني) "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها" مهما ارتكبت، بل أرسل الأساطيل، وقدم السلاح، وهدد الجميع، بمن فيهم المقاومة اللبنانية. وبات من الواضح جداً أن هذه الشعارات هي للشعوب التي تعيش في أكناف الغرب المنافق، وليست من حق أي أحد آخر، لا في آسيا ولا في أفريقيا.

لا يحق لنا كفلسطينيين أن نقاتل لتحرير أرضنا، ولا أن تكون لنا دولتنا المستقلة، بل يحق لنا أمر واحد، أن نتعايش ونبقى تحت الاحتلال، فيدنس الأقصى، وتهان كنسية القيامة، ويسجن الطفل والمرأة، ويقتل الشاب في مقتبل العمر، ونرضى بالفتات من أرضنا، ونصمت، ونتعايش. الفلسطيني الجيد هو الأسير، المقموع، والقتيل، هذا هو المنطق الإسرائيلي، المدعوم غربياً.

لم تعرفنا عملية "طوفان الأقصى" على شيء جديد من الموقف العربي الرسمي الباهت، والمخجل! أما دول الطوق، فشغلها الشاغل ألا يحصل تهجير إلى أراضيها، وليس ذلك نابع من الحرص على الفلسطينيين، ألا يعيشوا تهجيراً جديداً، بل الخوف على الكراسي والعروش، ومن الذي أخبركم أن الغزي الذي يعيش تحت القصف والدمار يريد أن يغادر أرضه ويلجأ إلى ديكتاتورياتكم.

إن الكيان الإسرائيلي يعيش لحظة وجودية بكل ما في الكلمة من معنى، ومهما فعل الاحتلال فلن يستطيع تحقيق صورة نصر إلا إذا احتل القطاع، واعتقل كل المقاومين، ووصل إلى الأسرى، وهذه مهمة أشبه بالخرافية. إن عملية "طوفان الأقصى" أحدثت تصدعات عميقة في الكيان، ستزيد شروخها مع الوقت، وأهم ما فيها، ما أحدثته في الوعي الجمعي للمستوطنين، فما عاد الكيان مكاناً آمناً للعيش، ولا لبناء مستقبل "واعد"، وهذا يمثل دماراً للمشروع الصهيوني في فلسطين كـ"دولة يهودية".

لقد أثبتت الأحداث سابقاً ولاحقاً أن منطق القوة هو السائد في العالم، فمن يمتلك أسباب القوة يفرض نفسه على الدول والحكومات، لكن هذا المنطق يتوقف ولا يُحسب له حساب عندما يريد الشعب الحياة، عندما يختار طريق النضال مساراً إلزامياً للتحرر، ولو أردنا كفلسطينيين أن نقارن أنفسنا بالاحتلال الإسرائيلي المدعوم من أعتى قوى العالم، ما أطلقنا رصاصة واحدة، ولو احتسبنا أن ردة الفعل الإجرامية عبر المذابح ستشكل لنا رادعاً، فلن نحرر أرضنا، فالجزائر، وليبيا، وفيتنام، مثال حي عن كل الشعوب المُستعمرة، التي احتُلت دولها وحرروها بالنضال والتضحيات، ولم يأبهوا بميزان القوة، فالقوة كل القوة للشعوب إن أرادت.