مدمن التدخين لا يسمع نصيحة الطبيب

مدمن التدخين لا يسمع نصيحة الطبيب

19 يونيو 2023
+ الخط -

وَعَدْتُ صديقي "أبو سعيد"، خلال محادثتنا السابقة بالواتساب، أن نتحدث عن طقوس استقبال الضيوف من قبل المرأة العائدة من زيارة الطبيب في بلدتنا "معرة مصرين"، أيام زمان، وأن أحاول، قدر الإمكان، الابتعاد عن الاسترسال، والانتقال إلى أحاديث أخرى جانبية.

وقد حاولت الوفاء بوعدي، بالفعل، فقلت إن المفروض، حسب الأصول الاجتماعية المرعية، أن تساعد المرأةَ العائدةَ من عيادة الطبيب، ابنتُها، أو ابنُة أخيها، أو حفيدتها، فتقف في خدمة ضيوفها مثل الياور (أي الخادم)، تحضر للزائرات الماء البارد والشراب المثلج، ولا سيما إذا صادف هذا الأمر في فصل الصيف.

ولكن المحادثة بين شخصين لا يمكن أن تمشي في خط واحد، لأن المستمع للكلام يمكن أن يتدخل ويستفسر عن مسألة تؤدي إلى الحديث في شأن آخر لبعض الوقت، مثلما فعل أبو سعيد عندما قال:

- اسمح لي بسؤال صغير. أنت تتحدث عن أيام لم يكن فيها ثلاجات كهربائية في المنازل. فمن أين كانوا يحصلون على الماء البارد؟

قلت: كان صاحبُ البيت يرسل أحدَ أولاده، في ضحى النهار، إلى طاحون الحاج أحمد عبود، حيث تتم صناعةُ قوالب الثلج (البوظ) في الجناح الشرقي من الطاحون، ويشتري بربع ليرة، أو بنصف ليرة بوظ، تكفي الأسرةَ طوال النهار، إذ توضع ضمن منشفة قماشية، لئلا تتعرض للذوبان، وعند الاستعمال تُضْرَب بالمطرقة، أو يد الهاون، حتى يصبح البوظ جريشاً، ويوضع قليل منه في كأس الماء، أو كأس الشراب.. ولكي لا تسألني عن الشراب، أقول لك إنه كان يُصنع في المنزل، فسيدة المنزل تعصر البرتقال في الشتاء، وتغلي ماءه، وتضيف إليه السكر، حتى ينعقد، ويصبح قوامه لزجاً، وتبرده، وتعبئه في زجاجات (قناني)، وتحتفظ به حتى يأتي الصيف، ولعلمك، إن مراحل تحضير كأس من الشراب تعاكس عملية صناعته، إذ يضاف إليه الماء بدلاً من تنشيفه، ويبرد بجريش البوظ بدلاً من غليه. وكان هناك نوعان شائعان من الشراب، هما البرتقال والليمون، وفيما بعد صاروا يصنعون شراب الكرز (الوَشنا) في أوائل فصل الصيف. ونحن في شمال إدلب لم نكن نعرف الكرز حتى وقت متأخر، عندما راح المزارعون في منطقة أريحا وجبل الزاوية يزرعونه، ووجدوا مردوده المادي عالياً، فحاول مزارعو المناطق الأخرى زراعته، ولكنهم أخفقوا، لأنه يحتاج إلى مناخ خاص يتوفر في منطقة أريحا حصراً.

- جميل.

- وبالعودة إلى الحديث عن حكايات الطقوس المرضية في تلك الأيام القديمة، تحضرني حكاية رواها لي صديقي ماهر، وهي أن والدته، خالتي أم ماهر لاحظت، ذات يوم، أن عمي أبو ماهر تأخر في الاستيقاظ، وهي تعرف أنه يعاني من مشاكل صحية كثيرة، فأدركت أنه (ما لُه كيف)، وهذا النحت شائع في مناطقنا، ويعني أنه مريض ومنزعج. اتصلتْ أم ماهر بماهر، وقالت له:

- تعال شوف أبوك، اليوم فايق منعنس وما لُه كيف.

فحضر ماهر، وقال لوالده:

- سلامتك ياب، قم البس ثيابك حتى آخذك إلى إدلب.

وكان هذا الإجراء، في تلك الأيام، طبيعياً بالنسبة للابن البار، وأما الابن العاق فيتصرف بطريقة توحي بالتهرب من المسؤولية، فيروح في الغرفة ويجيء، ويهمس لوالدته بأن والده ما في شيء، ولكنه يتدلل عليكِ وعلينا، وينصحها بأن تترك الأمر إلى يوم الغد، فإن لم يصحصح يمكن أن نأخذه إلى إدلب.

وللعلم فإن بلدتنا، معرة مصرين، لم يكن فيها طبيب.. كان فيها رجلان يعملان بالتمريض، واحد في الحارة القبلية، والآخر في الحارة الشمالية، والأهالي يلجأون إلى أحدهما حينما يكون وضع المريض واضحاً جداً، كما في حالة التهاب اللوزتين، مثلاً، وساعتها يقول المريض لذويه:

- ابعثوا لي فلاناً، ليضربني إبرة..

فيكون له ما أراد، ويستدعي أحدُ أفراد الأسرة الممرضَ أبو فلان، ويحقنه إبرة بنسلين عيار مليون، وبعد أن يغطيه ذووه باللحف والبطانيات، يتعرق، ويستيقظ، ويتنفض، ويقوم مثل النمر.. وأما إذا كان الإنسان (مْنَعْنَسْ)، أو (ما لُه كيف)، ونوع المرض غير واضح، فيجب أخذه إلى إدلب، عند جورج غنوم، أو محمد نعمة، أو فهمي الحكيم، أو أحمد بعثّ، أو عبد القادر عرجا، رحمهم الله جميعاً. وهذا ما اقترحه ماهر على والده. ولكن أبو ماهر برم بوزه، ولم يرد، ففهم ماهر أنه لم يتحمس لفكرة الذهاب إلى إدلب. استفسر منه عما يدور في رأسه، فقال إنه سمع من جارهم أبو وَهَّاب عن طبيب أصله من إحدى قرى جبل الزاوية، دارس في الشام، وفاتح عيادة في معرة النعمان، هذا الطبيب الرائع يعاين المريض، ويعطيه دواء، يشرب منه حبتين أو ثلاثاً، ولا يكمل الدواء لأنه يكون قد شفي.

المهم، شكا ماهر أمره لله، واستكرى سيارة سكارسا ذهاباً وإياباً، وسافر مع والده إلى المعرة.

فرح أبو ماهر فرحاً لا مثيل له عندما استجاب ماهر لرغبته، وكاد أن يُشفى قبل أن يصل العيادة، فقد كان كله أملاً في أن لمسة هذه الطبيب السحرية، كما قال له أبو وهاب، ستخرجه من دوامة الآلام التي عانى منها في الآونة الأخيرة. ولكن ما حصل، بحسب ما روى لنا ماهر، أدهشه، فقد دخل أبو ماهر مع الطبيب إلى غرفة المعاينة، وأغلقت الممرضة عليهما الباب، وما مر سوى سبع، أو ثماني دقائق، حتى خرج أبو ماهر وهو يستكمل ارتداء شنتيانه (سرواله الخارجي)، واتجه نحو الباب الخارجي وهو يقول له:

- تعال ماهر. دعنا نرجع إلى معرة مصرين.

وهنا وقع ماهر في صراع نفسي، وفضول، يريد أن يعرف ما الذي جرى حتى غضب والده وخرج، فذهب من توه إلى الطبيب، وسأله عن سبب خروج والده حرداً، فقال الطبيب:

- الظاهر أن والدك مولع بالتدخين. كنت أفحص صدره، فوجدت لديه التهاباً حاداً بالقصبات. طلبت منه أن يُقلع عن التدخين، فغضب، ونزل من على طاولة المعاينة، وخرج.

ابتسم ماهر وقال للطبيب:

- أيوه. فهمت. واضح أن ثقة والدي بشطارتك قد ضُربت، فأنت تفترض أنه مدخن، وهو لم يدخن سيجارة واحدة طوال حياته!    

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...