مراسلات هجائية بطريقة السجع

مراسلات هجائية بطريقة السجع

25 ديسمبر 2022
+ الخط -

قلت لأبو صالح إن حكايات "أبو عناد" مع الديون والاقتراض تسوغ له اللقب الذي أطلقه على نفسه، وهو: مَلك الدَيْن والاقتراض.

قال: لا تنس، يا أبو مرداس، أن أبو عناد جمع دائنيه كلهم في مقهى الريحاني، ذات يوم، وألقى فيهم خطبة، وأنك وعدتني بذكر تفاصيل ذلك الاجتماع.

- نعم. أبو عناد تحدث، في تلك الخطبة، عن حقوق الدائنين، وواجبات المديونين، وقال إن المديون عليه واجبات كثيرة، وليست له أية حقوق! وقال: الواحد منكم، يا سادتي، حينما يتقدم بطلب وظيفة في دائرة حكومية، يُطلب منه إبراز وثيقة (لا حكم عليه) من السجل المدني. صح؟

قالوا: نعم. صح.

قال: برأيي أن المديون لا يمكنه الحصول على هذه الوثيقة، فهو محكوم للظروف، والأحوال، ولمشيئة الدائنين.

وكان بين الموجودين مدرس اللغة العربية، الأستاذ كامل، وهو رجل طيب، وخجول، ومع أن تاريخ المبلغ الذي أقرضه لأبو عناد بعيد، إلا أنه كان يخجل حينما يلتقي به، ويدير وجهه نحو الحائط لكيلا يُحرجه بنظراته.. وقد استغل أبو عناد هذه الطيبة، وسأله، خلال الاجتماع، عن الفرق بين الدائن والمديون، في اللغة العربية، فقال الأستاذ كامل على استحياء:

- الفرق واضح للعيان؛ يا أخي أبا عناد، فالدائن على وزن فاعل، والمديون على وزن مفعول. وهناك، كما تعلم، صفة سيئة كثيرة تأتي على هذا الوزن، أستحي من ذكرها.

قال أبو عناد: صحيح. وفي الواقع أن صديقي أبو سليمان أمسك اليوم الذئب من ذيله، إذ أرشدني للخروج من خانة المديون، الذي (على وزن مفعول)، إذ اقترح علي أن أسحب قرضاً من مصرف التسليف الشعبي، وبمجرد ما أستلم المبلغ، أجتمع مرة أخرى بهذه الوجوه النيرة، هنا في هذا المقهى المبارك، وأقدم لكل واحد من الدائنين كأساً من الشاي، أكرك عجم، من يد عمنا أبو مريد، وأحضر معي قنينة مسك، وأدفع لكل واحد منكم دينه، وأرش له بعد ذلك حبة مسك، وبعد ذلك ننتقل إلى ما يسميه المخططون العسكريون: الخطة B.

بعض الذين استمعوا إلى هذه الخطبة داخَلَهم السرور، لأنهم، أخيراً، سيحصلون على مبلغ الدين الذي كانوا يعتقدون أنه ضائع، وبعضهم الآخر شعروا بالضيق، لأن إيفاء ديون أبو عناد يعني انتهاء سلسلة الفصول المضحكة التي تنشأ عن هذا الوضع، وهذا ما عبر عنه الأخ أبو سالم الذي كانت له مع أبو عناد قصة طريفة..

سألني أبو صالح: هل لقصة أبو سالم علاقة بالديون؟

- طبعاً طبعاً. فهذا الرجل كان مدرساً لمادة التربية القومية، ومنتسباً لحزب البعث، وكان يأتي لزيارة أبو عناد، يومياً، ويعرض عليه أحلامه المتعلقة بالذهاب، عن طريق حزب البعث، إلى الجزائر، للعمل في التعليم، براتب ضخم، ووقتها سيبدأ (كما قال) بإرسال الحوالات لأبو عناد، لكي يفي ديونه ويمشي في شوارع إدلب مرفوع الجبين. وفي يوم من الأيام، نقشت المسألة مع أبو سالم، وصدر قرار إعارته إلى الجزائر، فمر على أبو عناد لتوديعه، وجدد له العهد بأن يجعل الحوالات تنزل عليه، خلال أشهر قليلة من مغادرته الأراضي السورية، مثل زخ المطر.

بعد مضي حوالي سنة من سفر أبو سالم، وبينما كان أبو عناد جالساً في مكتبه بمديرية المالية القديمة، إذ دخل عليه ساعي البريد أبو علي، ومعه رسالة مسجلة، رفعها إلى الأعلى وهو متهلل الوجه، وقال له:

- أبشر يا أبو عناد، هذه أول حوالة من صديقك أبو سالم. خذ. ولا تنسانا من فطور حمص وفول وفلافل، أو قرصين من الشعيبيات من دكان عمنا الحاج محمد ناجي عاشور.

خلال السنة التي مرت على غياب أبو سالم، راودت صديقَنا أبو عناد الشكوك بأن صديقه كان يضحك عليه (أو: يأكل في رأسه حلاوة)، ولكن هذه الرسالة مرسلةٌ بالبريد المضمون، والرسائل لم تكن ترسل بالبريد المضمون إلا إذا كان في داخلها شيك، أو حوالة، أو وثيقة مهمة، وعندما أمسك أبو عناد المشرط وهمَّ بفتحها، تجمع حوله الزملاء، وتقدمت الزميلة سونيا عارضة عليه استعدادها لإطلاق زغرودة طويلة، في لحظة ظهور طرف الشيك، فقال لها (لا مانع)، زغردي.. ولكن المفاجأة، الغريبة، أن الرسالة كانت عادية، ولكنها مكتوبة بالسجع، على طريقة المقامة:

يا أخي أبو عناد، يا طيبَ القلب والفؤاد، يا من أكن له الوداد، أنا صديقك أبو سالم، أحبك من الأفئدة والصماصِم، أزف إليك البشائر، بأنني أعيش في الجزائر، عيشة الأحرار والحرائر، أطير كنحلة وأغرد كطائر، سائلاً السميع المجيب، أن يجمعني بك عن قريب، لنفتح جراب الذكريات، ونحكي عن الآمال والأمنيات..

ضحك صديقي أبو صالح، وأنا أقرأ له ما علق في ذاكرتي من رسالة أبو سالم، وقال: مؤكد أن أبو عناد اغتاظ من صديقه..

قلت: نعم، وقد رد عليه بمقامة مماثلة، فيها الكثير من الغيظ، كتب له:

يا أخي أبا سالم، يا ذا الزعانف والغلاصم، الناعقَ كالبوم لا كالحمائم، وصلتني منك رسالة، وكنت في أسوأ حالة، فظننت فيها شيكاً وحوالة، فسكرت من فرحتي حتى الثمالة، وفتحتها بلهفة وعجالة، فلم أجد سوى تلك الزبالة، فقد زففتَ إلي البشائر، بوصولك إلى الجزائر، وتغريدك كالطائر، فلا أقسم بالمنتقم الجبار، خالق الليل والنهار، لو أنك تهت في القفار، وشهنقتَ كالحمار، وأرسلت إلي بعض النقود، أطعم بها أولئك القرود، لدعوت لك بالسلامة، وفي الجزائر طول الإقامة.

دهش أبو صالح، وسألني إن كان أبو عناد لديه من الحس الأدبي الفكاهي ما يكفي لكتابة هذه المقامة.. فأجبته إنه، بالفعل، كتبها، ولكن ليس كما قرأتها عليك، فللأمانة، تدخلتُ أنا فيها، وأضفت عليها بعض الفقرات، بغية إغناء الموضوع.

- رائع. وماذا حصل بينه وبين أبو سالم بعد هذه المراسلة؟

- سأحكي لك.. ولكن ليس الآن، فالسيدة أم مرداس تدعوني لتناول الغداء.

(للسالفة بقية)   

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...