"ليلة زلماطة": حرب الجزائر بصوتين

"ليلة زلماطة": حرب الجزائر بصوتين

18 سبتمبر 2016
تجهيز لـ أنيت ميساجي/ فرنسا
+ الخط -

رغم الهدوء النسبي في استعادة حرب الجزائر واقتصارها على المناسبات التاريخية، وضمور السجالات السياسية والفكرية حول هذه القضية في المشهد الثقافي الفرنسي، لا يفتأ هذا الموضوع الحارق يُفاجئنا، بين الفينة والأخرى، فيزعج الوعي بأسئلته، ويضعه أمام مفارقات التاريخ. 

طفت هذه المسألة على السطح مُؤخّراً في بعض الأفلام والروايات الفرنسية، عاكسةً ما في العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة من التعقّد والتوتّر وبقاء العواطف مشحونة تلهب القرائح وتغذّي السجالات. ومن آخر ما صدر في هذا الصدد رواية "ليلة زلماطة" (منشورات "ألبان ميشال" 2016)، وهو عمل مثير بعالمه المتخيَّل الذي يحتك بالواقع، ما يجعله مربكاً بحِبكته ومكوِّناته.

أما كاتبها فهو ريني - فيكتور بيلاس (1934)، الذي يتقمّص في عمله هذا دور راهب - راوٍ، كان معتكفاً في صومعته، أثناء الأحداث الجارية بين سنتي 1953 و1957، يتابعها عن بُعدٍ، وقد قرّر الصّدع بحقيقتها أمام الله والتاريخ، حتى لا تضيع نصاعتها وسط زحمة الإشاعات والأكاذيب.

ومن "اعترافاته" نشأت حبكة الرواية التي تتناول لقاءً ضمّ رجلين جمعهما التطلّع إلى الحرية والرغبة في كَسر العنف؛ الأول: رمضان عبّان، مؤسّس "الحركة الشعبية لتحرير الجزائر"، حين كان مسجوناً في فرنسا، وهو في عنفوان شبابه يسعى إلى تحرير بلده من هيمنة الاستعمار وآثار الطمس الثقافي التي ارتكبها.

أمّا الثاني، فضابط عَسكريٌ، اسمه جون ميشال لوتيي، غادر الجزائر، مسقط رأسه، إلى مدينة تولوز، بلد أجداده، حيث التقى برمضان في سجنه وتحادثا عن شؤون السياسة والهوية فأُعجب بآرائه ومواقفه التحديثية.

بعد ذلك، افترق الرجلان ليلتَقيا من جديد، مصادفة، بعد أربع سنوات، أي سنة 1957، حينما كان الضابط الفرنسي، لوتيي، يقوم بدورية عسكرية فيفاجأ بأن صديقه رمضان على وشك الفرار إلى المغرب، قبلَ أن يلقى حتفه على يد "الرفاق" الذين باتوا يخشون نفوذه وذكاءه في ميله إلى الحكمة في مواجهة فظاعة الاحتلال.

الرواية حبكة عجيبةٌ من الوقائع والحوارات والصور التي تعيد إلى الأذهان المفارقات التاريخية التي ميَّزت حرب التحرير الجزائرية؛ تستعيدها عيون شاب من "الأقدام السوداء" (الأوروبيون الذين وُلدوا وعاشوا في الجزائر خلال فترة الاستعمار ثمَّ أجبروا على العودة إلى فرنسا بعد الاستقلال) يرى في الجزائر - في آنٍ - بلده ومستعمرتَه، فهي موطن ذكرياته وحنينه، وموضوع نزاعه العسكري مع السكان الأصليين.

يواجه في ذلكَ قناعاتهم حول الحرية والعمل السياسي، وتشريع العنف العسكري، وصوت المنابر الأممية، وفظاعات القتل. تقابلٌ بين هويَّتيْن يجمعهما الانتماء إلى "وطن" واحد كلٌّ يسميه باسم مختلفٍ.

كتبَ بيلاس الروايةَ بعد سبع عشرةَ سنة من الصمت. وهو حين أجراها على لسان راهبٍ خامل الذكر يعيش على هامش التاريخ، أرادَ أن يسجل من خلاله لحظات فارقة في التاريخ المعاصر، ومن خلالها يقدّم مقولات عن موضوع راهن هو صراع الهويات وتنافر الضمائر.

ففي فرنسا نقع اليوم على مفارقة مشابهة، فالعمليات الإرهابية التي تطاولها يقف وراءها فرنسيون غالباً وإن كانوا من أصول أجنبية، وفي جزائر ذلك الوقت تنازع على البلد جزائريون أصليون و"جزائريون" من أصول فرنسية.

من جانب آخر، الرواية ضربٌ من السيرة الذاتية يستعيد فيها الكاتب أيام دوريّاته في تلك المرحلة الحاسمة في التاريخ الحديث، يرصد أحداثها وما رافقها من خطاباتٍ عن الأنا والآخر، قبيل اندلاع المواجهة العسكرية التي راحَ ضحيتها أكثر من مليون شهيدٍ وهو ما حاول رَمضان تلافيه في "ليلة زلماطة".

لعل هذا الانتقال (من عسكري إلى راهب) محاولة فنّية في التخفيف على الضمير الجمعي. وبالتالي، فالرواية اعتراف ضمني بما جناه الاحتلال على شعب آخر.

دلالات

المساهمون