"على جسر عبدون" لباسم عوض: شخصيات تتحاور في برزخٍ عمّاني

"على جسر عبدون" لباسم عوض: شخصيات تتحاور في برزخٍ عمّاني

10 فبراير 2022
(من العرض، تصوير: محمد أبو غوش)
+ الخط -

لن تجد مكاناً في العاصمة الأردنية، عمّان، يتردّد اسمه في تقارير واستطلاعات صحافية محلّية وعربية كما يُذكر جسر عبدون (أو جسر كمال الشاعر)، الذي لم يتوقّع أحد، عند تدشينه عام 2006، أن العشرات سينتحرون، أو يحاولون الانتحار، بإلقاء أنفسهم من جانبيه اللذين يبلغ ارتفاعهما نحو خمسة وأربعين متراً.

تنتهي هذه الحوادث عادةً بصورة لجثّة في أسفل الوادي أو لشخص نجا من الموت عقب إقناع المارّة له بأن للحياة معنىً لم يكتشفه بعد، وبعد تناقل الصورة، ستنشغل وسائل الإعلام باستضافة أخصّائيين وأطباء نفسانيين للحديث عن التفكّك الأسَري والإحباط والفقر والبطالة والاضطرابات النفسية والمخدّرات كدوافع قادت إلى الانتحار.

"على جسر عبدون" هو عنوان الفرجة المسرحية التي عُرضت أخيراً على خشبة "مسرح هاني صنوبر" في "المركز الثقافي المَلكي" بعمّان ويُعاد عرضُها بدءاً من الأسبوع المقبل، وهي من إخراج باسم عوض، وتمثيل الفنّانَيْن صلاح الحوراني وإنجي لكود، وسينوغرافيا الفنان التشكيلي غسّان مفاضلة. يتناول العملُ الجسرَ الذي يمثّل شاهداً على فقدان الأمل وعدم احتمال الوجود، وقاعه الذي يحيل إلى منطقة شبيهة بالبرزخ، حيث تلتقي فيها أرواح المنتحرين وتتحاور في ما بينها حول ماضيهم الذي عاشوه، فتتداخل أمكنة هذه الشخصيات وأزمنتها، وتتناسل ذكرياتهم التي يتمّ استرجاعها من زاوية نظرهم كموتى، وتختلف حتماً عمّا كانت عليه وهُم على قيد الحياة.

عودة إلى أصول المسرح العربي التي كانت تقوم على الكلمة

في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، يشير عوض إلى أن النص الأوّلي كُتب قبل أربع سنوات، بدافع العودة إلى المحلّية بعد أن سادت النصوص العالمية على المشهد المسرحي الأردني خلال العقود الثلاثة الماضية، وقُدّمت بشكل فنّي قائم على التغريب والتجريب بدا معقّداً وغير مفهوم إلّا لنخبة المثقفين، وكان مضمونها بعيداً عن مشاكل الناس وهمومهم اليومية، ما تسبّب بنفور الجمهور وابتعاده عن المسرحيّين الذين باتوا يعرضون أعمالهم لأنفسهم.

ويضيف: "فكّرت بالعودة إلى المسرح بعد انقطاع لأكثر من عشر سنوات لعملي مدرّساً في الخليج، مواجهاً اشتراطات الواقع والاعتراف بالأخطاء التي وقعنا فيها كمسرحيين أردنيين، ولجأت للكتابة عن القضايا الراهنة المعيشة وتقديمها بشكل مفهوم، مع العودة إلى أصول المسرح العربي التي كانت تقوم على الكلمة والحوار، والسينوغرافيا التي تساند الكلمة ولا تحلّ بديلاً عنها. الدلالة التعبيرية في الكلام هي العنصر الأساس، بينما تساهم بقيّة المؤثّرات في تعزيز هذا الوضوح، ما يمكن أن نسميه 'مسرح المعنى' الذي يصل إلى جميع فئات المجتمع".

الصورة
(من العرص: تصوير: محمد أبو غوش)
(من العرص: تصوير: محمد أبو غوش)

تشارَك عوض طروحاته مع فنانين آخرين انقطعوا عن العمل منذ أعوام طويلة نتيجة إحساسهم باللاجدوى، ومنهم صلاح الحوراني الذي كتب نصّ العمل إلى جانبه، وجرى اختيار جسر عبدون باعتباره "ملاذاً لكثير من المعذّبين لإنهاء معاناتهم، كما يشكّل أيضاً فكرة إنسانية تُحيل إلى تواصل منطقتين جغرافيّتين متباعدتين؛ عمّان الشرقية وعمّان الغربية، في وقت قصير جدّاً، لكنه يعجز عن الجمع بين ناس مختلفين على المستويين الثقافي والإنساني، ما ولّد الدافع لكتابة نص محلّي عمّاني قد ينطبق، رغم ذلك، على عواصم أخرى فيها جسور عاجزة عن تجسير مثل تلك الفجوة".

كُتبت مسوّدة النص على شكل دراما عن شخص يعاني مجموعة صغوطات تدفعه إلى أن يُلقي بنفسه من الجسر، لكنّه يغيّر رأيه ويبدأ بسرد حكاياته للمارّة، العابرين مثله من "الشرقية" إلى "الغربية"، ولأولئك السائرين في الاتجاه المعاكس، ليكتشف أن كلّ طرف منهما لديه مشاكله الخاصة.

لقاء عوض والحوراني بدأ خلال ورشة عمل أفضت إلى إعادة صياغة النصّ عبر خلق شخصية نسائية تحاور بطل العمل، ولم يعد جسر عبدون هو الجغرافيا الوحيدة التي تدور عليها الأحداث، حيث يمكن وقوعها في أيّ مكان من عمّان لتعبّر في المحصّلة عن الواقع الأردني كلّه.

الصورة
(من العرص: تصوير: محمد أبو غوش)
(من العرص: تصوير: محمد أبو غوش)

عاد المؤلّفان إلى أرشيف الصحافة الذي يذكر حالات الانتحار، ومن بينها قيام سوريَّيْن بالانتحار أخيراً من فوق الجسر، ليكشف عن عمق العذابات التي واجهاها جرّاء الحرب واللجوء. وينسحب الأمر على لاجئ عراقي آخر، بالإضافة إلى أمّ حاولت الانتحار برفقة خمسة من أبنائها، وأردنيين من فئات عمرية مختلفة، وكانت أسباب انتحارهم متعدّدة، تتعلّق حالة منها بعلاقة عاطفية فاشلة، ما ضاعف أهمّية وجود شخصية نسائية أمكن من خلالها تقديم انتقادات لواقع المرأة الأردنية، بحسب عوض.

يؤكّد عوض أن المؤثّرات البصرية والصوتية تدعم فكرة العمل وتساهم في شرحها، وتقول مقولتها، وهو ما دعا إلى إسناد السينوغرافيا إلى الفنان التشكيلي غسان مفاضلة، الذي ابتكر عملاً فنياً مستقلّاً يخدم رؤية المسرحية، مع ديكور لا يحتاج تركيبه أو تفكيكه أكثر من خمس دقائق. كما تمّ تأليف موسيقى خاصّة بالعرض لتشكّل عنصراً رئيساً في مقدّمته وفي عدّة لوحات تتضمّن قصائد ملحّنة وذات طابع صوفي لكلّ من الحلّاج ومحمود درويش وتيسير سبول.

مغامرة أخرى أقدم عليها المخرج في اختيار ممثّلَيْن ينتميان إلى جيلين، وجمعهما معاً، ما يبني "جسراً" آخر بين أداءين تعبيريّين مغايرين يوازي فكرة الجسر الذي يدور حوله العمل. ويكشف هذا النوع من المسرح، بحسب عوض، إمكانيات الممثّل على مستوى صوته وأدواته.

يختم عوض حديثه بقوله إن "جسر عبدون" هو الجزء الثاني من ثلاثية مسرحية حول عمّان، بدأها بعرض "حارس المدينة" الذي قُدّم العام الماضي، وهو يبحث حالياً عن نصٍّ جديد يتناول تاريخ المدينة بإنسانها ومكانها منذ عمّون وحتى اليوم، ضمن مشروعه الساعي إلى تقديم مسرح يومي يستعيد الجمهور ولا يبقى أسير المناسبات والمهرجانات.

يُذكر أن التأليف الموسيقي أُسند إلى عبد الرزاق مطرية، والإضاءة إلى ماهر الجريان، والماكياج إلى منال المدبوح، والغناء إلى فوز شقير.

الأرشيف
التحديثات الحية

المساهمون