"مجهول بوردو"... صاحب رحلة الحج الأولى إلى الأراضي المقدسة

"مجهول بوردو"... صاحب رحلة الحج الأولى إلى الأراضي المقدسة

24 ابريل 2021
رسم لوصول حجاج إلى القدس (Getty)
+ الخط -

بعد ثلاثة أعوام فقط من وفاة الإمبراطورة هيلانة، والدة الإمبراطور قسطنطين الأول التي حددت أماكن الحج واكتشفت خشبة الصلبوت، بدأ شخص مجهول من مدينة بوردو في فرنسا الحالية رحلة الحج الأولى المعروفة في التاريخ، في مطلع العام 333م، ومن هنا؛ تكتسب رحلته هذه أهمية استثنائية على صعيد الطوبوغرافية التاريخية أولاً، حيث اشتملت على أسماء الكثير من الأماكن، على صعيد الدراسات المقارنة المعنية بتطور قصة الحج، في بدايات العصر البيزنطي ثانياً.

تم تحديد تاريخ بدء الرحلة عن طريق اسم قنصلي القسطنطينية في ذلك الوقت، إذ ذكر أنه وصل إليها في نهاية مايو/ أيار وعاد إليها في ديسمبر/ كانون الأول، أي أنه أمضى نحو ستة أشهر في الأراضي المقدسة.


من بوردو إلى أنطاكية

يبدأ الرحالة المجهول رحلته من مدينة بوردو في الجنوب الغربي من فرنسا، قرب ساحل الأطلسي، متخذاً طريقه إلى جبال الجورا الفرنسية-السويسرية، ومنها صوب جبال الألب نحو إيطاليا، إلى أن يصل إلى مدينة ميلانو، ومنها إلى فيرونا ثم فينيسيا، ثم يعبر إلى منطقة بانونيا، والمنطقة الواقعة بين داسيا وتراقيا، إلى أن يصل إلى القسطنطينية في الثلاثين من شهر مايو أثناء قنصلية دالماتيوس وزينوفيلوس، أي في العام 333م. ومن القسطنطينية يعبر إلى خلقيدونية وبيثينية في الجانب الآسيوي من تركيا الحالية.

وحين يصل إلى مدينة ليبيسا بالقرب من نيقوميديا (إزميت الحالية) يخبرنا بأن ثمة حجرا يشير إلى ضريح هانيبال ملك الأفارقة. ولا شك في أن المكان أخذ شهرته بعد أن قام سبتيموس سفيروس ببناء ضريح للقائد القرطاجي الذي توفي في هذه المدينة، بعيداً عن تونس وهو يحاول حشد حلفاء لمهاجمة روما من جديد.

بعد ذلك يخبرنا حاج بوردو، حين يصل إلى مدينة تيانا (في منطقة كيمير حصار التابعة لولاية نيغدة وسط تركيا الحالية)، أن هذه المدينة هي مسقط رأس الساحر أبولونيوس. وأبولونيوس الذي يصفه رحالتنا بالساحر، هو فيلسوف فيثاغورسي اشتهر أيام الامبراطورة الحمصية جوليا دومنا التي طلبت من السفسطائي فيلوستراتوس أن يكتب سيرة هذا الفيلسوف بعد أن أعطته 

مجموعة من الوثائق أعطاها إياها أحد زهاد مدينة نينوى القديمة، كانت تتضمن تسجيلاً لأخبار جولاته وآرائه وخطبه ونبوءاته.
وبعد أن يصل رحالتنا إلى مدينة طرسوس في كيليكية، يخبرنا أنها مسقط رأس بولس الرسول، ولا نعلم إن كان ثمة ضريح يدل على أن الرسول بولس ولد في هذه المدينة أم أن الموضوع لا يخرج عن الحديث الشفهي؟ ومن طرسوس يتوجه إلى أضنة ومنها يعبر عدة محطات ليصل إلى أنطاكية. ويقول إن المسافة من طرسوس إلى أنطاكية تبلغ 141 ميلاً، تتضمن سبع استراحات.


عابراً الساحل السوري

بعد ذلك يصل إلى قصر دافني، على بعد خمسة أميال من أنطاكية؛ ثم إلى محطة على بعد 11 ميلاً اسمها هيستادوم (لعلها السويدية)، تليها استراحة في بلاتانوس على مسافة 11 ميلاً، ثم محطة في مكان يسمى بكّايا على بعد ثمانية أميال، ثم استراحة في كتلاية أو قطلاية على مسافة 16 ميلاً. وبعدها بمسافة مماثلة، أي 16 ميلاً، تقع مدينة اللاذقية. ومنها ينطلق إلى مدينة جبلة على مسافة 14 ميلاً، ثم مدينة بلنياي، أي بانياس الساحل الحالية، على مسافة 13 ميلاً. ويقول إن هذه المدينة تمثل الحد بين سورية المجوفة وفينيقيا.

بعد بانياس يصل إلى محطة تقع على مسافة 10 أميال إلى الجنوب يسميها مرقّاي، وهي قرية مرقية الحالية؛ ثم استراحة في أنتاردوس، أي طرطوس الحالية، على بعد 16 ميلاً. ويشير إلى وجود مدينة في البحر على بعد ميلين من الشاطئ، والمقصود جزيرة أرواد الشهيرة طبعاً.

وبعد ذلك يتوقف في محطة يسميها سبيكليس على بعد 12 ميلاً؛ ثم محطة يسميها باسيليسكوم على بعد 12 ميلاً، ثم استراحة في عرقة، على مسافة ثمانية أميال، ثم محطة اسمها بروتوم على مسافة أربعة أميال، وهي البترون على الأرجح، ثم محطة اسمها الكوبيلوم على مسافة 12 ميلاً، هي جبيل على الأرجح، ثم محطة في موقع يدعى هلدوا على مسافة 12 ميلاً، إلى أن يصل إلى مدينة بيروت على مسافة 12 ميلاً من هلدوا.

المحطة التالية في بارفيريون على مسافة ثمانية أميال، ثم مدينة صيدا على مسافة ثمانية أميال. وهنا يبدو أن خطأ ما وقع في تدوين المحطات، فالمسافة بين بيروت وصيدا أكثر من 16 ميلاً، ولا شك في أن محطتين أخريين سقطتا من النص. وبعد صيدا يصل إلى موقع يسميه زرفتا، أي الصرفند الحالية، على مسافة ثمانية أميال. ويقول رحالتنا إن هذا المكان هو المكان الذي صعد فيه إيليا إلى الأرملة وطلب طعاماً منها. وهي أول إشارة إلى واقعة مذكورة في الكتاب المقدس.

بعد أربعة أميال هناك محطة من دون اسم، ثم مدينة صور على بعد 12 ميلاً، ويقول إن المسافة من أنطاكية إلى صور 174 ميلاً تتضمن 20 محطة، و11 استراحة.


من صور إلى قيصرية فلسطين

بعد صور هناك محطة تسمى ألكسندروخينوم على بعد 12 ميلاً، وهي اسكندرونة الحالية جنوبي صور، ثم على مسافة 12 ميلاً محطة في إكديبا، وهي بلدة الزيب في أقصى شمالي فلسطين الحالية. وعلى مسافة ثمانية أميال منها تقع مدينة بتولمايس، أي عكا، ثم محطة في كالامون على مسافة 12 ميلاً، ربما هي خربة الدامون، ثم سيكامينوس على مسافة 3 أميال، وهي استراحة على جبل الكرمل، حيث قدم إيليا ذبيحة، كما يقول حاج بوردو اعتماداً على الكتاب المقدس.

وعلى مسافة ثمانية أميال هناك محطة تدعى سيرثا يقول إنها حافة الحدود بين سورية وفلسطين، وبعدها بثمانية أميال تقع مدينة قيصرية فلسطين، والمسافة بينها وبين صور، كما يقول، تبلغ 73 ميلاً، فيها محطتان وثلاث استراحات. ويخبرنا أنه زار حمام كرنيليوس قائد المائة في الكتيبة المسمّاة "الإيطاليّة"، وهو، بحسب الموروث المسيحي أوّل وثني انضم إلى كنيسة المسيح، وقال إن في الحمام حوض سباحة، عندما تستحم فيه المرأة، تصبح قادرة على الحمل.


مدينة ماكسيميانوبوليس وجبل جرزيم

من قيصرية ينطلق حاج بوردو إلى مدينة ماكسيميانوبوليس على مسافة 17 ميلاً، وهي مدينة اللجون حالياً، ثم مدينة إسدراديلا على بعد عشرة أميال، وهي قرية يزعيل الحالية جنوبي العفولة، ويقول إن هذا المكان هو الذي شهد تنبؤات إيليا، وفيه الحقل الذي قتل فيه داود جوليات. وبعد ذلك يصل إلى مدينة سكيثوبوليس على مسافة 12 ميلاً، وهي بيسان الحالية، وبعدها أشر على بعد 16 ميلاً، حيث بيت النبي أيوب، ثم إلى مدينة نابلس على بعد 15 ميلاً.

ويحدثنا عن جبل جرزيم، وعن اعتقاد السامريين بأنه مكان ذبيحة إبراهيم، ويقول إن عدد الدرجات التي توصل إلى القمة يبلغ 1300 درجة. وإن عند سفح الجبل مكانا اسمه شكيم، فيه قبر يوسف في فيلاّ أعطاها له أبوه يعقوب. ويضيف أنه على بعد ميل من هناك مكان اسمه سيخار، حيث نزلت فيه المرأة السامرية التي تحدث معها يسوع المسيح.

ومن هناك ينطلق رحالتنا إلى القدس، فيمر على قرية تسمى بيتار تقع على مسافة 28 ميلاً من نابلس، وهي بيت إيل، ويقول إنه على بعد ميل منها رأى المكان الذي نام فيه يعقوب، عندما سافر إلى بلاد ما بين النهرين، وقد روى باستفاضة القصص المذكورة في الكتاب المقدس المرتبطة بهذا المكان. ومن هذه القرية انطلق إلى القدس التي تقع، بحسب كلامه، على مسافة 12 ميلاً. ويقول إن المسافة من قيصرية فلسطين إلى القدس بلغت 116 ميلا فيها ثلاث استراحات، وأربع محطات.

وفي وصفه للقدس يقول: "ثمة بركتان كبيرتان إلى جانب الهيكل، إحداهما على اليمين والأخرى إلى اليسار، وهما من عمل سليمان، وأيضاً يوجد داخل المدينة بركتان توأمان مع خمسة أروقة تسمى بيت صيدا. هنا تم شفاء العديد من المرضى الذين استعصت حالاتهم لسنوات. تحتوي هذه البرك على مياه تصبح قرمزية عند تحريكها، وثمة سرداب حيث قام سليمان بتعذيب الشياطين، وهناك ركن أعلى برج، حيث صعد يسوع وقال لمن يجربه: لا تجرب الرب إلهك، بل يجب أن تخدمه فقط. وهناك حجر الزاوية الذي قيل عنه: الحجر الذي رفضه البناؤون أصبح حجر رأس الزاوية. وتحت قمة البرج توجد العديد من الغرف، حيث كان لسليمان قصره، وثمة أيضا الغرفة التي جلس فيها وكتب عن الحكمة. سقف الغرفة حجر واحد".

واللافت في أوصافه للقدس هو استحضاره لنصوص الكتاب المقدس في مواضع معينة، وإن دل هذا على شيء؛ فإنما يدل على أن ثمة أشخاصا كانوا مكلفين بإرشاد الحجاج إلى أماكن بعينها؛ وقراءة مقاطع محددة من الكتاب المقدس ترتبط بها.

يتحدث "حاج بوردو" عن مبنى يقول إنه كان هيكلاً بناه سليمان، من دون أن يوضح طبيعته حين زاره، ولكنه يشير إلى مذبح رخامي عليه دم زكريا، وآثار لحذاء الجندي الذي قتله، والدماء التي يقول إنها تشبه الشمع. ويؤكد وجود تماثيل وضعها هادريان في المكان. ويقول: "ليس ببعيد عن التماثيل حجر مثقوب لليهود يأتون في كل عام ويدهنونه ويتأوهون، ويمزقون ثيابهم ثم ينسحبون".


القدس ومحيطها

يصف "حاج بوردو" محيط القدس بقوله: "على طريق خارج أورشليم، وأنت تصعد صهيون، على الجانب الأيسر وأسفل الوادي المجاور للجدار؛ توجد بركة تسمى سلوام (سلوان)؛ لها أربع برك وحوض كبير آخر بالخارج. تتدفق نافورتها ستة أيام وليال، وتستريح في اليوم السابع، ولا تعمل طوال النهار والليل. في الجانب نفسه تصعد جبل صهيون، وهناك كان بيت قيافا رئيس الكهنة، والعمود حيث انهالوا على المسيح بالسياط. في الداخل، أي داخل الجدار، يظهر مكان قصر داود (..) عندما تغادر سور صهيون، من بوابة نابلس على الجانب الأيمن، أسفل الوادي ثمة أسوار بالقرب منها منزل بيلاطس البنطي؛ حيث امتحن يسوع قبل ان يتألم. وعلى الجانب الأيسر هناك تل الجلجثة الصغير حيث صلب مخلصنا، وعلى مرمى حجر من هناك ثمة سرداب حيث دفن جسده، وفي اليوم الثالث قام".

ويشير إلى بناء بازيليكا (كنيسة) ذات جمال رائع في المكان، بناءً على أمر الإمبراطور قسطنطين، فيها خزانات على أحد جوانبها، حيث يجلبون المياه إليها، وهناك حمام خلفها يستحم الرضع به. ولعل المقصود حوض تعميد للأطفال.
بعد ذلك يتوجه إلى جبل الزيتون، ويلاحظ وجود كروم في وادي يهوشافاط، وعلى الجانب الأيسر وادٍ آخر فيه صخرة حيث خان يهوذا الإسخريوطي المسيح؛ أما على الجانب الأيمن، فيقول إن هناك نخلة حمل الأطفال أغصانها ووضعوها عند مجيء المسيح. وعندما يصعد إلى جبل الزيتون يجد بازيليكا ثانية بنيت بأمر من قسطنطين.


أريحا وبيت لحم

من القدس يذهب حاج بوردو إلى أريحا على بعد 17 ميلاً، كما يقول، ويرى خارج المدينة على بعد حوالي ميل ونصف الميل نبع النبي أليشع. ويشرح لنا قصة هذا النبع الذي كان يسبب العقم للنساء، وكيف تحول إلى نبع يساعد على الحمل بمعجزة إلهية. ومن أريحا يذهب إلى البحر الميت على مسافة تسعة أميال. ويقول إن مياهه مرة للغاية ولا يعيش فيه أي نوع من السمك، وإذا ألقى شخص ما بنفسه فيه فإن الماء يرفعه. ومن هناك على مسافة خمسة أميال، ذهب إلى نهر الأردن حيث اعتمد يسوع على يد يوحنا قبل أن يعود إلى القدس مرة أخرى.

من القدس، في الطريق إلى بيت لحم، على بعد أربعة أميال، على الجانب الأيمن من الطريق، يجد القبر الذي دفنت فيه راحيل، زوجة يعقوب. ومن هناك على بعد ميلين باتجاه اليسار يصل إلى بيت لحم، حيث ولد السيد المسيح. ويشير إلى بناء كنيسة بأمر من قسطنطين. ولكنه يذكر معلومة غريبة لا نجدها في أي مصدر آخر، عن وجود قبو في بيت لحم فيه قبور حزقيال، وآساف، وأيوب، ويسى، وداود، وسليمان، ويؤكد أن أسماءهم مكتوبة هناك بأحرف عبرية؟!

وفي منطقة يسميها بيثازور، تقع على بعد 14 ميلاً عن القدس، يزور ينبوعاً قال إنه نفسه الينبوع الذي عمد فيه الرسول فيليب الخصي الإثيوبي. وهذا الينبوع يسمى حالياً عين الذروة قرب بلدة حلحول في جبل الخليل، ومن هناك سار مسافة ثمانية أميال حتى وصل إلى موقع يسميه تيريبنث، حيث كان يعيش إبراهيم الخليل، وحيث حفر بئراً تحت شجرة وتحدث مع الملائكة وأكل طعاماً". ويقول إنه رأى في المكان كنيسة شيدت بأمر من قسطنطين، ذات جمال رائع. ويعتقد أن الكلام يدور عن موقع بيت سبتة الذي بات الآن ضمن أراضي مدينة الخليل.


في الخليل

من تيريبنث توجه حاج بوردو إلى حبرون (مدينة الخليل) على مسافة ميلين، وقال إنه رأى نصباً تذكارياً في مربع من الحجارة رائعة الجمال، حيث دفن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسارة ورفقة ولائقة.

وبهذه المحطة اختتم حاج بوردو رحلته وعاد إلى القدس، ومنها غادر إلى مدينة نيكوبوليس على مسافة 22 ميلاً، وهي مدينة عمواس، ومنها إلى مدينة اللد الواقعة على بعد عشرة أميال، ومنها إلى محطة أسماها انتيباتر على بعد عشرة أميال، وهي عند مصب نهر العوجة، ومنها إلى محطة يسميها بيتثار على بعد عشرة أميال، ومنها إلى قيصرية فلسطين على مسافة 16 ميلاً. مختتماً حديثه عن الأراضي المقدسة عند هذه المحطة، ليستأنف كلامه من مدينة هيراكليس عبر مقدونيا.

المساهمون