"القوس المرتعش": شعر الحبّ المفقود

"القوس المرتعش": شعر الحبّ المفقود

07 يناير 2021
المغنية البينينية أنجليك كيدجو في عرض "امرأة سواء"، مهرجان أفينيون، 2017 (Getty)
+ الخط -

هل عرفت قارة أفريقيا شعر الحبّ مثلما عرفته بقيّة القارات؟ أو بعبارة أكثر وضوحاً: هل عرف الإنسان الأفريقي عاطفة الحب وعبّر عنها في شعره وأغانيه؟ سيبدو السؤال غريباً بالنسبة إلى القارئ العربي، مثلما هو غريبٌ السؤالُ عمّا إذا عرفت الثقافة العربيّة الشعرَ مثلاً. ولكنّ الأستاذ الجامعي والشاعر والكاتب فرانك تشباسولا، المولود في مالاوي عامَ 1949، والمنفيّ والمبعد عن أرض وطنه في ما بعد، يلاحظ أن هذا السؤال يتبادر ولا بدّ إلى ذهن أي قارئ يتصفّح عدداً من كتب المختارات الشعرية العالمية المعنيّة بشعر القارة الأفريقية، إذ لا يجد فيها ذِكراً لقصيدة حبّ أفريقية واحدة، وإن وجد قصيدةً فستكون لشاعرة ذات صلة بأفريقيا وليست أفريقيّةً حتّى. ويبدو أن ملحوظة هذا الأستاذ المختصّ بالدراسات الأفريقية في جامعة إلينوي الجنوبية في الولايات المتحدة الأميركية، هي التي تقف وراء إعداده لكتاب مختارات شعريّة تحت عنوان "القوس المرتعش: مختارات من قصائد الحب الأفريقية"، ليس ليبرهن فقط على أن الإنسان الأفريقي، شأنه شأن أيّ إنسان آخر في العالم، عرفَ عاطفة الحب وعبّر عنها شعراً، بل وعلى أنّه يمتلك تراثاً من قصائد الحب المغنّاة والمكتوبة، يمتدّ من زمن الحضارة المصرية القديمة إلى الأزمنة الحديثة، بكامل حيويته وموضوعاته.

ضمّت هذه المختارات قصائدَ مكتوبٌ بعضُها باللغات الإنكليزية والفرنسية والبرتغالية، وبعضها مترجم عن اللغات الأفريقية المتنوعة، وتصدّرت قسمَها الأول قصائدُ من مصر القديمة ممّا وُجد مكتوباً ومنقوشاً بالحروف الهيروغليفية على أوراق البرديّ وجدران المباني. وتأتي بعدها، في القسم الثاني، قصائد الحبّ التراثية من مختلف بلدان القارّة وسواحلها وصولاً إلى جزر تابعة لها، مثل مدغشقر. أما القسم الثالث فيحتوي على قصائد حداثيّة ومعاصرة، ومن شتى بلدان القارة أيضاً. 

حركات شعرية معاصرة تدين لتراث غزلٍ شفهيّ قديم

هذا المتن الشامل، زمنياً وجغرافياً، يبدأ بالكشف عن واقعة أن المصريّين القدماء هم الذين أبدعوا أقدم قصائد الحب التي تعتبر واحدة من منجزاتهم الرئيسية في الأدب. وترجّح سطورٌ منقولة عن عالم الآثار المصرية البريطاني توماس إيرك بيت، أنه لا يوجد شاعرٌ أفريقي في الأزمنة الحديثة يكتب عن الحبّ ولا يقول الكثير من الأشياء التي فكّر بها وقالها أسلافُه المصريون قبل ثلاثة آلاف عام. وحين يأخذ به صاحبُ المختارات منهجاً في البحث والإعداد والرؤية، إنما يأخذه بهدف تعريف القارئ بمتن متنوّع ومختلف من متون شعر الحبّ، وهو بُعدٌ مهمّ مفقود بالرغم من أهميته في الأدب الأفريقي كما يقول. 

في مصر القديمة، يزدهر شعر الحب الأقدم في شكله الغنائي المكتوب بالحروف الهيروغليفية. ويمتد هذا التراث زمنياً من عهد حكم الأسرة الثامنة عشرة إلى الأسرة العشرين (من 1300 ق.م إلى 1100 ق.م تقريباً)، ويستحضر جوانب من تقاليد المجتمع المصري القديم، كما يوثّق فنون الغزل على شاطئ النيل، وفي الأعياد والمهرجانات ومناسبات الأفراح التي هي من سِمات البلدان المتحضّرة.

هذا الشعر يرسم صورة مجتمعٍ يمنح الرفاهية قيمةً عليا، ويمجّد الفرح، على الرغم من الربط الشائع بينه وبين الانهماك المزمن بالموت وما بعد الحياة، ربما بسبب المومياءات التي اشتهر بها. يضاف إلى هذا، أنّ جوهر المخيّلة في أغاني الحبّ هذه هو ذاته في أغاني وأناشيد حضارات أخرى. على سبيل المثال، تشي مجازاتٌ وأخيلة ورموز مركزيّة في النصوص الكنعانية والأكدية (البابلية والآشورية) واليونانية بأصولها التي اشتُقّت منها، أي أغاني الحبّ والأعراس الأفريقية. 

تشي النصوص الكنعانية والأكدية واليونانية بأصول أفريقية

من ناحية بنيوية، يكشف هذا الشعر عن مهارة في التأليف تنافس مهارة ما يناظره في الشعر الحداثي والمعاصر، مثل تفضيله لمعجم بسيط، وسطور بلا قوافٍ، وتنويعه لأطوال السطور، واستخدامه للغةِ الحديث المتداولة، وإيقاع الكلام المنطوق، وكل هذا يعكس خصائص الشعر الحداثي الأساسية. وتكشف نغمة الخطاب في هذه القصائد أيضاً عما يتّصف به الخطاب الشخصي من حميمية بين المحبّين، وهي نغمة ما زالت تحافظ على حيويتها حتى اليوم.

يلاحظ صاحب المختارات أنّ ما عبّر عنه العشّاق القدماء بجرأة وحذق تصلنا اليوم أصداؤه في أغاني الطرب السواحلية (سواحل شرقي أفريقيا)، بمجازاتها وتورياتها. وبالفعل، علينا أن نعود إلى الماضي لنصادف طلائع عشاق الشعر الرومانسي اللاحق.

بعد ذلك تقودنا المختارات من أغاني الحبّ القديمة إلى القسم الثاني في نقلة طبيعية لا يشعر معها القارئ أنه انتقل إلى عالم آخر. في هذا القسم، نجد أنفسنا أمام نماذج من أغاني الرقص والغزل والأعراس المعاصرة؛ نماذج ثرية على الرغم من أنها لا تستنفد كلّ ما هو موجود، كما نجد أغانيَ حبٍّ، من أعراق القارة المتنوّعة، تكشف عن نبض وإيقاع أفريقيا التقليدية.

مهارة القدماء في التأليف تنافس الشعر الحداثي والمعاصر

وتستحقّ أغاني حب قبيلة أكولي، في شمالي أوغندا، إشارةً خاصّة بسبب تأثيرها العظيم على الشاعر الأوغندي أوكت بي بايتك (1931 - 1982)، جامع هذه الأغاني وناشرها، والذي يعدّ واحداً من أبرز شعراء أفريقيا في القرن العشرين. ساعد هذا الشاعر بعمله الأرشيفي النموذجيّ، وترجمته للقصائد الغنائية الموروثة إلى الإنكليزية، على تدشين حركة شعرية جديدة في شرقي أفريقيا في ستينيّات القرن الماضي، وأورث الأدب الأفريقي كنزاً مهمّاً يتألّف من أغاني حبّ بلهجة قبيلة أكولي، مترجمة بأمانةٍ حافظت على نكهتها المميزة حتّى في الإنكليزية.

وعلى نحو مماثل، تدين حركة شعرية معاصرة في مدغشقر، أكبر جزر أفريقيا، بتكوينها، لشكلٍ قديم من أشكال شعر غزل شفهيّ ازدهر طيلة عصور، يُدعى هين تيني، وهو شعر حبّ حواريّ كلاسيكيّ بثّ الحيوية في قصائد حبّ شعراءٍ بارزين من حركة النزعة الزنجية، من أمثال جان جوزيف رابياريفيلو وفليفي هانيفو، اللذين مارسا كتابة هذه الأشكال الشعرية الشفهية بوعي كأساس للشعر المعاصر.

وبالانتقال إلى الشعر السواحيلي، تأخذنا المختارات إلى مَن يدين له هذا الشعر بمولده، شاعر القرن السابع عشر ليونجو فيمو، عمود المجتمع السواحيلي وأدبه على حد سواء، المتوفى عام 1690. وهناك شخصية أدبية مهمّة من الشخصيات السواحيلية: موياكا بن حجي الغساني (1776 - 1840)، المواطن الثريّ وذو النفوذ السياسي الواسع، من مومباسا الكينية. وكان موياكا شاعراً بارزاً في اللغة السواحيلية، ترك أثراً في شعراء الأجيال اللاحقة. 

الصورة
القوس المرتعش

ولكن، على الرغم من وجود هذا التراث من شعر الحب في أفريقيا الحيّ والمثابر على البقاء، نجد أنّ شعر الأدب الأفريقي المعاصر المكتوب هو شعر احتجاج سياسي متخندق علناً، من النوع الذي يتوقّعه المرءُ من شاعر أفريقي. 

في هذا السياق، هنالك معتقد تقليدي شائع بأن أغنية الحب جنسٌ أدبيّ خاصّ بالرجال، وهم من يجب أن يتغزل ويتغنّى، في ما يشبه مقدّمة تمهّد للزواج. ولكنّ هذا المعتقد بحاجة إلى إعادة نظر، لأن الكثير من الموروثات الفولكلورية الأفريقية غنية بأغاني الحبّ النسائية، وتمدّ هذه الموروثات الشاعراتُ المعاصرات بالقوة والطاقة على كتابة بعض من أكثر شعر الحب حِسّية وكثافةً روحيّة. قصائد النيجيرية آيفي آميديوم (1947)، على سبيل المثال، شهادة بليغة على منجزات الشاعرات الأفريقيات في هذا الجانب. قصائد الحبّ لديها تمتاز بالحسّية وقوة الشعور والجرأة.

وأخيراً، يمثّل إعداد ونشر كتاب مختارات "القوس المرتعش" تحدياً، كما يرى صاحبه، لشعراء أفريقيا، فهو يتحداهم أن يحتضنوا هذه الآلة الموسيقية التي يمكنهم أن يعزفوا عليها أغانيَ حبٍّ ترافق تبادل الهدايا بين الناس من أجل علاج الفجوات بينهم، وتوفّر لهم إمكانية تحقيق الكلّيّة الوجودية مرّة أخرى. فمن المعروف تاريخياً أن شعراء أفريقيا الشفهيين، كوسطاء في النزاعات، غنّوا لمجتمعاتهم التي تمزّقها النزاعات، مستخدمين في غالب الأحيان القوسَ بسبب تعدّد استخداماته، كسلاح صيد، وأداة فنية لتوليد الحياة، والتأكيد على الروابط الإنسانية. والسؤال الذي تطرحه هذه المختارات هو: هل يواصل الشعراء المعاصرون في أفريقيا تراث أسلافهم الغنائي، فيغنّون أغانيَ حبّ كافية لأداء أدوار مماثلة في حفظ السلام؟


* شاعر وروائي وناقد فلسطيني

المساهمون