حين سِرتُ في الخرطوم وبيدي علمُ فلسطين

حين سِرتُ في الخرطوم وبيدي علمُ فلسطين

02 يناير 2024
أطفال سودانيّون من نازحي الخرطوم الذين استقرّوا في وَد مدني، 28 حزيران/ يونيو 2023 (Getty)
+ الخط -

شهد "اتحاد كُتّاب أفريقيا وآسيا" في القاهرة، الأسبوع الماضي، ندوةً أُطلِقت فيها "الأعمال الكاملة للإمام الصادق المهدي"، وتشمل 10 مُجلّدات. يضعنا الحدثُ المرتبط باسم رئيس الوزراء الأسبق، والسياسي والمُفكّر السوداني الصادق المهدي (1935 - 2020)، في صُلب ما يجري، اليوم، ببلاد النِّيلَين. فبدل أن يكون البلد قد أنجز مرحلته الانتقالية، أو على الأقلّ يحتفل بذكرى مرور خمس سنوات على اندلاع الثورة الشعبية فيه، ها هي مليشيا "الدعم السريع" تشنُّ حرب إبادة وتطهير عِرقي في عُموم البلاد. حيث تتحدّث الأرقام عن أكثر من سبعة ملايين نازح، وعشرة آلاف قتيل، وجرائم اغتصاب تُرتكَب بلا حسيب، في "حرب الجنرالين" (البرهان وحميدتي) المُستعِرة منذ منتصف نيسان/ إبريل 2023.

هولُ الأرقام ووحشيّة المشهد، لا يعفيان من التبصُّر بحال الثقافة ومقولاتها. كان الكاتب السُّوداني عبد الله علي إبراهيم (1942)، قد فَسَّر صعود المليشيا، سابقاً، بمقولته عن "صدَأ الرِّيف"، فماذا تبقّى منها، بعد أن انتقلت الحرب من العاصمة المركزية إلى الولايات الآمنة؟ حيث سقطت بيد المليشيا، في الثامن عشر من الشهر الماضي، مدينة وَد مدني، مركز ولاية الجزيرة (186 كم جنوبي الخرطوم)، ما يُهدّد باستباحة شرقي البلاد. 

مليشيا تُهدّد وحدة البلاد وترتكب جرائم حرب بحقّ أبناء شعبها

هذا الصَّدأُ الذي رَعته ظروفٌ محلّية ودُولية منذ مطلع الألفيّة الجديدة، بطَش بالمدنيّين خالقاً أزمة نزوح هي الأكبر على مستوى العالَم، كما لم تسلَم منه الجامعات ولا المراكز الثقافية أو المكتبات العامّة أو دُور النشر. الأرقام هُنا تقول الكثير، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، تدمير "مكتبة الصادق المهدي" نفسها، التي تضمّ 12 ألف كتاب، ومليونَي وثيقة حكومية وحزبيّة ومؤسّسية، وألف شريط فيديو وكاسيت، و4 آلاف صورة فوتوغرافية.

الإبادة الجماعيّة التي هي اليوم وَسْمٌ صهيونيّ بامتياز، جريمةٌ استوعبَتها المليشيا وأدارتها صوب صُدور أبناء وبنات شعبها، منذ مجزرة "القيادة العامة" في حزيران/ يونيو 2019، وهذا غير مُستغرَب، فيما لو استقرأنا الحماسة التطبيعية مع "إسرائيل"، التي أبْدَاها جنرالا الحرب، عدُوَّا اليوم، وحلِيفَا الأمس القريب، على مدار الأعوام السابقة. 

ثمارُ التطبيع الفاسدة بدأت تتساقط على بلاد النِّيلين وتُهدّد وحدتها السياسية، وهذه المرَّة ليس النهر العظيم بفيضانه، أو "ذلك الإله الأفعى"، كما وصفه ذات مرّة الرِّوائي الطيّب صالح، هو الذي يجرُّ الخراب على البلاد، بل الأفعى المليشياوية، وقد فرغت من جرائمها في دارفور غرباً، وتلتفُّ الآن على وَد مدني والخرطوم في الوسط، وتتطلّع صوب بورتسودان شرقاً، المدينة التي ظلّت آمنة نسبيّاً، ونشطت فيها حركة فنّية وثقافية (تعويضية) خلال الشهور الثمانية الأخيرة.

بين غزّة والخرطوم وسائر مدن السُّودان مشتركاتٌ كثيرة، فضلاً عن أنّ تغييب السُّودان بجماهيره عن دَعم قضيّة فلسطين، وإشغاله بجراحه العميقة، بحدّ ذاته جريمةٌ أُخرى.

لا أنسى بائع الأعلام الذي صادفتُه في أحد أسواق الخرطوم قبل سنوات، وهو يُوزِّع أعلاماً فلسطينية في يوم استقلال البلاد (1 كانون الثاني/ يناير)، مُؤكّداً لي أنه لم يُخطِئ ولم تتشابه عليه ألوان العلَمين، على العكس، هو يُوزّع علَم السُّودان طيلة أيّام العام، وفي يوم الاستقلال بالذات يحرص أن يكون في يده علمُ فلسطين.
 

المساهمون