عزمي بشارة... أفكار في الثقافة السياسية والانتقال الديمقراطي

عزمي بشارة... أفكار في الثقافة السياسية والانتقال الديمقراطي

الدوحة

العربي الجديد

العربي الجديد
11 مارس 2023
+ الخط -

أكّد المُفكّر العربي عزمي بشارة أنّ مسألة الثقافة الديمقراطية تأتي في آخر سلّم الانتقال الديمقراطي، مُوضّحاً أنّ المطلوب حدٌّ أدنى من الثقافة الديمقراطية لدى النخب الجاهزة، ليس لبناء الديمقراطية من جديد، بل لتبني النظام الديمقراطي الجاهز، مشدّداً على التزام الديمقراطية رغم الخلافات الحزبية، وعدم تبكير الصراع على السلطة، قبل أن تستقرّ الديمقراطية، لأن ثقافة الشعب في ظلّ النظام غير الديمقراطي، لا تتقبّل الصراعات الحزبية المبكرة، التي تُظهر وكأنّ النظام الديمقراطي نظامٌ من الفوضى، وأنّ السياسيّين يتبعون المصالح. 

وبعنوان "ملاحظات عامّة حول الثقافة السياسية"، قدّم المدير العام لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ورئيس مجلس أمناء "معهد الدوحة للدراسات العليا" محاضرةً افتتاحية لأعمال الدورة التاسعة من "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية" الذي يعقده المركز في مقرّه بالدوحة ويستمرّ لثلاثة أيام.

واستهلّ بشارة محاضرته الافتتاحية بمناقشة مفهوم "الثقافة السياسية" في مشروع الثقافة المدنية عند غابرييل ألموند وسيدني فيربا، والتي جرى تعريفها، منذ ذاك الحين، بوصفها القيم والمواقف والتوجُّهات التي تُعزّز نظاماً سياسياً ومنظومةً معيّنة من المؤسّسات السياسية أو تُضعفها، ويهتمّ الباحثون فيها بتوزيع أنماط التوجّهات السياسية والسلوك تجاه النظام السياسي ومركباته المتعدّدة، والموقف من دور الفرد أو المواطن في هذا النظام.

إنّ ثقافة أيّ شعب ليست متجانسة ولا خالية من الصراعات

وعرّف المُحاضر، من جهته، الثقافة السياسية السائدة بوصفها تتألّف من المعايير الاجتماعية بشأن القضايا العمومية، وأيضاً من معارف الناس وآرائهم عن الدولة، والسلطة، والتراتبية الاجتماعية والسياسية، والولاء، والحقوق والواجبات، وغيرها. ويمكن استقراؤها من استطلاع مواقف الناس، سواء أكان ذلك عبر استمارة من الأسئلة الموجَّهة إلى عيّنة مختارة من السكّان، أم ربما، حالياً ومستقبلاً، من خلال سبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد تجميع البيانات الضخمة والفلترة والتصنيف؛ وكل هذا من دون أن نفترض علاقةً سببية بين القيم والتوجُّهات من جهة، والممارسة السياسية (بما في ذلك اتخاذ المواقف عملياً وعلنياً) من جهة أُخرى، وهما بُعدا الثقافة السياسية.

ثم انتقل صاحب "في المسألة العربية - مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" ليشتبك نقدياً مع الكثير من التحليلات التي تعُدّ أنّ الثقافة السائدة عموماً، أي ثقافة شعبٍ بأكمله، أو ثقافته السياسية مباشرةً، يمكن أن تؤثّر في تكريس النظم السياسية السلطوية. 

وأبرز بشارة أنّه لا يتفق مع هذه التحليلات لأسباب خمسة: أوّلاً، لأنه لا يحمل شعبٌ بأكمله ثقافةً سياسية واحدة متجانسة، وثانياً، لأنّ ربط طبيعة نظام الحكم بالثقافة تفسيري محض؛ فمن الصعب إثبات وجود علاقة سببية واضحة بينهما، وما يجري عادةً هو ربط الباحث نظامَ حكمٍ قائماً بثقافة مستقرَأَة من المسوح والاستطلاعات أو من التحليل التأويلي للثقافة السائدة، وثالثاً، لأنّ هذا التفسير قد يُضمر، من دون أن يفصح، مشاركةً ما للشعب في السياسة، غير أنّه غالباً ما يُقصى الشعب الذي يعيش تحت وطأة السلطوية عن السياسة أصلاً. ورابعاً، لأنّ القيم والعادات الاجتماعية تُنظّم علاقات الناس ضمن الجماعة، أو المجتمع، عموماً، أمّا طبيعة علاقة الفرد والجماعة بالدولة الحديثة، فغالباً ما تفرضها الدولة، وتُحدّد قواعدها إذا حصل التلاقي المباشر بينهما، مع تسجيل تحفّظ مفاده أنّ الدولة الحديثة في حالة ضعفها في مقابل قوّة المؤسّسات الاجتماعية التقليدية، فإنّ مؤسّسات الدولة تتأثّر بها بشدّة. وخامساً، لأنّه لا يمكن فهم تأثير قيمٍ وأعرافٍ اجتماعية تُعدّ عناصرَ مكوِّنةً للثقافة السياسية في السلوك السياسي إلّا من خلال فهم تفاعلها مع الظروف والمصالح، بما في ذلك تأثّرها بها وبالنظام السياسي القائم وسياساته.

وحاجّ بشارة، في معرض عرضه الافتتاحي للمؤتمر، بأنّه يصحّ أن نرفض فكرةَ جوهرٍ ثابتٍ لثقافةِ أيّ شعبٍ رفضاً قاطعاً، وأن ندحضَ أيّ فكرة مفادها أنّ الثقافةَ كلٌّ عضوي واحد يتمثّل في جميع أجزائه، بحيث يمكن استخلاص الكلّ من معاينة الجزء، لكن لا يصح أن نُنكر وجود ثقافة لمجتمعٍ ما في زمانٍ ومكانٍ محدَّدين، وأنّ التسليم بوجود ثقافة كهذه في مركزها لغة محدّدة، وربما دين واحد، وحولهما تراث مكتوب وآخر شفوي، ورموز كثيفة المعاني، وفنون عمارة وأساليب حياة وغير ذلك، لا يعني أنّ لها جوهراً أخلاقياً واحداً، ولا أنّها وحدة متجانسة في الحاضر أو ثابتة عبر التاريخ، ولا أنّها هي نفسها موزَّعة بين الفئات الاجتماعية المختلفة.

يعُدّ الثقافة الديمقراطية في الغرب سابقةً على وجود النظام

من نافل القول، وفقاً لبشارة، إنّ ثقافة أيّ شعب ليست متجانسة ولا خالية من الصراعات والتناقضات والتوترات القيمية، ولكنّ هذه الثقافة السياسية لا تتولّد من جوهر ثقافي معيّن، بل من أنّ الناس بثقافاتهم المتنوّعة ضمن الثقافة نفسها يتفاعلون بطرق مختلفة مع الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة، ويستحيل أن ينجم عن ذلك ثقافة سياسية واحدة متجانسة، وأنّه حتى حينما تُستنتج ثقافة سياسية من نوع محدَّد، وذلك بتحديدها بناءً على تعريف مسبق للثقافة السياسية يضعه الباحث، وتصنيف الثقافات السياسية بناءً على معايير محدَّدة سلفاً، بوصفها مساندةً أو معيقةً للديمقراطية أو السلطوية، ثم التحقُّق من وجودها لدى شعب معيّن أو فئة سكّانية محدَّدة بالتحليل الكمّي الاستقصائي أو بالتأويل النصّي والسيميائي، أو بتحليل التوجُّهات الرائجة على وسائل التواصل بافتراض تخطّي الصعوبات المنهجية؛ بمعنى أنه حتى حينما نستنتج انتشارَ ثقافةٍ سياسية من نوع معيّن، فإنّ بشارة أكّد أنّنا لا نستطيع إثبات علاقةٍ ما بين مجمل أفعال الناس وثقافتهم السياسية هذه، ولا سيما في الحياة اليومية، وأنّ توجهات الناس السلوكية لا تنقسم بين متحمّسةٍ للنظام القائم، أو امتثالية طائعة لها، أو مقاومة ضدّه؛ إذ يمكن أن تكون مجرّد متكيّفة مع المحيط.

وقد عدّ المفكّر العربي بشارة أنّ سَوْق عدم توافُر ثقافة مواتية للديمقراطية في بلدان العالم الثالث تفسيراً لغياب الديمقراطية، والذي يقوم على "مُسلَّمةٍ" مفادها أنّ هذا النظام قام في الغرب على ثقافة مساندة لها، يقلب في الحقيقة السبب والنتيجة؛ فهو يعُدّ الثقافة الديمقراطية في الغرب سابقةً على وجود النظام. وقد ربطها بعض الباحثين بكل جدّية بمزايا الشعوب الشمالية وتاريخها السابق، بدءاً بمجالس قبائلهم ما قبل المسيحية، أو بالفلسفة اليونانية والثقافة اليهودية ــ المسيحية.

وفي المقابل، ينافح بشارة بأنّ مجالس القبائل وصنع القرار الجماعي ليست أموراً خاصة بالقبائل الجرمانية، كما أنّ التراث اليهودي ــ المسيحي، إنْ كان مثل هذا الشيء موجوداً على نحو يتعدّى آليات استثناء "الهولوكوست" من تاريخ العلاقات اليهودية ــ المسيحية، قد افتُرض بعد أن تأسّست الديمقراطيات. وفي الحقيقة، فإنّ التراثين اليهودي والمسيحي يشتملان على عناصر مناهضة للديمقراطية تفوق بكثير ما تشتمل عليه من عناصر ديمقراطية، وعادةً ما تُنسب إليها هذه الأخيرة على نحو ارتجاعي.

إحدى الخلاصات المهمّة التي استنتجها عزمي بشارة في خاتمة درسه وتحليله لمفهوم الثقافة السياسية، أنّ الثقافة الديمقراطية السائدة التي تساهم في التزام سيادة القانون وحقوق المواطن والتعدّدية السياسية، هي نتاج تطوُّر تدريجي للنظام الديمقراطي ونشوئه على مراحل، بما في ذلك التعويد والتثقيف عليها، استمرّ أكثر من قرن في الغرب. في حين أنّ بدايات النظام الليبرالي المتواضعة ديمقراطياً، لا تُفسِّرها أيُّ ثقافة سادت قبل نشوئها، بل تُفسَّر نشأتُها بظروف ومفارقات تاريخية متعلّقة بالعلاقات والصراعات والتوازنات بين أقطاب مثلّث الملك والأرستقراطية والبرجوازية الصاعدة في بريطانيا وفرنسا، ولظروف أُخرى في الولايات المتّحدة، ولم ينبع تطوُّر الديمقراطية اللاحق في أيّ بلدٍ من استحضار البيئة الثقافية السياسية الاقتصادية ذاتها التي سادت في هذه البلدان، ولم يمرّ من خلال الصيرورة ذاتها، وأنّ شروط الانتقال الديمقراطي في العالم المعاصر تتلخّص في استقرار الدولة وشرعيتها، وثقافة النخب السياسية المساندة للديمقراطية، وعدم معارضة الجيش والأجهزة الأمنية للانتقال، وربما عدم وجود بيئة إقليمية معادية للديمقراطية.

ذات صلة

الصورة
أصيب حسن وأحمد في قطاع غزة (حسين بيضون)

مجتمع

قلما ينجو فلسطيني في غزة من صواريخ مسيّرات الاحتلال التي يطلق عليها محلياً اسم "الزنانة"، وكان من بين ضحاياها الشابان حسن أبو ظاهر وأحمد بشير جبر.
الصورة
عزمي بشارة (العربي الجديد)

سياسة

قال المفكر العربي عزمي بشارة إن جهات عديدة في أوروبا والولايات المتحدة تعمل منذ عقود بشكل منظم على تحويل التضامن مع الشعب الفلسطيني إلى حالة دفاع عن النفس
الصورة
المنتدى السنوي لفلسطين- اليوم الثالث (العربي الجديد)

سياسة

أكد باحثون، اليوم الاثنين، أهمية "المنتدى السنوي لفلسطين" باعتباره "رافعة مهمّة للبحث العلمي حول فلسطين والقضايا العديدة المرتبطة بها.
الصورة
انطلاق أعمال المنتدى السنوي لفلسطين - حسين بيضون

سياسة

انطلقت في الدوحة، صباح اليوم السبت، أعمال المنتدى السنوي لفلسطين في دورته الثانية، الذي يُنظّمه "المركز العربي للأبحاث" ومؤسسة الدراسات الفلسطينية.

المساهمون