لا مَناص

لا مَناص

28 فبراير 2024
طائر في قفص وسط الشارع بعد أن دمّر العُدوان منزل أصحابه، رفح، 26 شباط/ فبراير 2024 (Getty)
+ الخط -

قبل أيام كشف "المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" عن مُمارسات كيان الاحتلال في سجونه، وقيامه بدعوة مدنيِّين إسرائيليِّين لرؤية التعذيب الذي يقترفه جنود الاحتلال بحقّ المواطنين الفلسطينيّين، وليصوّروا بهواتفهم تعذيب الغُزاة لأصحاب الأرض. "إسرائيل" بكلّ ما تقوم به، لا تتوقّف عن التأكيد للعالَم بأسره أنَّها مستعمرة، لأنَّ فكرتها منذ البدء فكرة المُستعمَرة. 

"إسرائيل" بسلوكها وانعدام أخلاقيّاتها، مجرَّد مُستعمَرة، مصيرها أن تتفكّك وتندثر. والخطر الذي يُحيق بـ"إسرائيل"، هو "إسرائيل" نفسها؛ حتى إنَّ المشهد الذي كشفه "المركز الأورومتوسطي"، يعيدُ إلى الأذهان مسرحيّة "الاغتصاب" (1990) للمسرحي السوري سعد الله ونّوس (1941 - 1997). وفي المسرحية نعرف أنَّ مسار التفكُّك الذي ينتظر كيان الاحتلال، يجيء من داخل الكيان. لأنَّه كيانٌ قائم على تغذية الكراهية بصورة دائمة يوميّة. إنَّه كيان قائم على كراهية الآخرين. سواء أكانوا فلسطينيّين، أو غيرهم. فـ"إسرائيل" نشأت منذ البدء عبر تغذية الصهيونية لدى اليهود شعورَ أنَّهم "مكروهون"، أنَّهم "شعبٌ مختار"، وأنَّ "أرض المِيعاد" خلاصهم من الآخرين. ومن ضروب تغذية الكراهية هذه التي نشأ عليها كيان الاحتلال ويستمرّ من خلالها، دعوة المدنيّين إلى مراكز التعذيب، كي يتغذّوا بصرياً بمشاهد تعذيب الفلسطينيّين.

تُخبرنا الفنون أنّ المجتمع المؤسّس على الكراهية مصيره إلى زوال

أمام الحادثة الواقعيّة لسلوك الاحتلال، لا يملك المرء إلّا أن يدين الوحشيّة، وأن يحتقر مرتكبيها. لكن في المسرحية، يُمكن للمرء أن يقرأ ويحلّل بهدوء، وأن يتعاطى مع مقولات المسرحيّة باعتبارها إشارةً وقراءة لما حدث ويحدث ومستمرٌّ بالحدوث. في المسرحية، يظهر جانبا الصراع، المقاوم الفلسطيني إسماعيل، وزوجته. وفي الجهة المُعادية، نرى إسحق وزوجته وزميله جدعون، وهُما موظّفان في جهاز الأمن. وإلى جانب هؤلاء يوجد عدد من الشخصيّات التي تجعل صورة الصراع متكاملة، مثل الأُمّ الفلسطينية والأُمّ الصهيونية.

يُعتقل إسماعيل ويتعرَّض للتعذيب في السجن على يد إسحق ورفاقه، ثمَّ تُعتقل زوجة إسماعيل وتُغتَصَب أمامه، يغتصبها جدعون، وفي الأثناء يحطّم إسحق رجولة إسماعيل. في مشهدٍ آخر نعرف أن إسحق صارَ عنِّيناً، ونرى جدعون يغتصب زوجة إسحق. وتتلخّص مقولة المسرحية في أنَّه ليس بوسع الإسرائيليين النجاة من التشويه الذي يمارسونه ضدَّ أصحاب الأرض، ومصيرُ الإسرائيليين أيضاً أن يتشوّهوا. ودعوة المدنيّين الإسرائيليّين لرؤية فنون التعذيب، أشبه بدور الأمّ الصهيونية في مسرحية ونّوس؛ وقد فطمت ابنها على الكراهية، على ضرورة الدم، وعلى استباحة حقوق العرب، وهي تغذّي ابنها بصنوف العنصرية كافّة. في مسرحية سعد الله ونّوس، تظهر الصهيونية خطراً على اليهود وعلى العرب بالقدر نفسه. فجدعون يغتصب زوجة المقاوم، ويغتصب زوجة زميله الإسرائيلية أيضاً. إنَّه مغتصب مثالي. وهو تعبير مثالي عن طبيعة الصهاينة. 

إسحق نفسه سوف يُقتل، يَقتله رئيسه في جهاز الأمن، عندما يُواجهه بسلوك جدعون المغتصب، ويُصارحه بشكوكه حيال عدالة "إسرائيل". خاصة أنَّ الطبيب النفسي أخبره أنَّ العُنَّة التي أصابته، هي عِقاب للنفس. بعد أن أَفْقَدَ إسماعيل رجولته ورأى الاغتصاب يجري أمام عينيه، من غير أن ينتفض لإنسانيته. ومصير إسحق باعتباره يهوديّاً تائباً، يهوديّاً مُرتدّاً عن الصهيونية وأفكارها؛ أن يُقتل. 

يُنهي ونّوس مسرحيته بلقاءٍ يفترضه مع الطبيب اليهودي الذي يُعادي الصهيونية و"إسرائيل". وهذا اللقاء تعرضه المسرحية، أساساً، كضربٍ من الاستحالة. فالكيان الإسرائيلي، كيانٌ غاشم، وعنفهُ عنفٌ مستطير. يتغذّى بالكراهية للآخر، وإقصاء صوت العدالة، ليس بين اليهود فقط. وإنَّما كما شهدنا خلال حرب الإبادة المستمرّة على غزّة، فإنَّ كيان الاحتلال يعمل جهده حتَّى داخل الجامعات الغربية كي يحارب صوت العدالة. لكن كما يخبرنا الفنّ؛ المجتمع المؤسّس على كراهية الغير، لا مَناص؛ الكراهية سوف تفتكُ به.

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون