نزيف اللغات الأم في ثلاثة أفلام روائية قصيرة

نزيف اللغات الأم في ثلاثة أفلام روائية قصيرة

20 يناير 2023
من فيلم "ماركو" للكرواتي ماركو شانتيتش
+ الخط -

في كلّ لحظة من عُمرنا نعبّر عن هُويّتنا الشخصية والمحلّية. بعضُنا قد ينفتح على هوية إنسانية. الوعي هو الذي يتيح هذا الانفتاح، إلّا أن اللغة الأولى هي التي تلتصق باللحظة العظمى، بوعي الحليب، بعد أن نخرج من الرحم لاجئين لأوّل مرة. نحن على الأرض منتمون بالحاجة إلى لغات تسمّي الأشياء أوّلاً، ثم تتدرب على المعاني والمفاهيم التي عليها أن تشبه لوننا وشكلنا وحركة الجسد والوجود.

هذا كمين؟ في السِّلم، أي في الزمن الذي نصارع فيه تهديداً غامضاً ومزمناً، قد نلجأ إلى لغة (ولهجة أيضاً) مسيطِرة، ونصبح لاجئين بوعي جديد متطوّر أو متورّط، يحذف من معجم اللغة الأولى مُكرهاً ومختاراً. بيد أنه كمين، حقّاً، حين تقع الحرب. يكتشف كلٌّ واحد منا أنه سيموت أو ينجو من الموت بسبب لغته. إنها مكشوفة، لا في المعجم، على صعوبة الفرار منه، بل في مخارج الحروف التي قُطع أمرُها مع قطع الحبل السُرّي.


اللغة القاتلة
في ثلاثة أفلام روائية قصيرة، ثمة لغاتٌ أمٌّ نازفة دماً وخوفاً، ومن أشدّها عنفاً الفيلم الباكستاني "اللغة القاتلة" (Murder Tongue ــ 2022)، للمخرج علي سهيل جورا، لأنه يضعنا في واحدة من أسوأ لحظات الموت على الهُوية في شوارع مدينة كراتشي عام 1992. إن هذه السنوات التي ستستمر حتى 1995 مع حكومتي نواز شريف وبينظير بوتو، من القسوة حتى أنها في أجندة الأجهزة الاستخبارية والأمنية تُعرف باسم "عملية التنظيف".

تنظيف العناصر المضادّة للمجتمع من أكبر مدينة في باكستان وعاصمتها التجارية على بحر العرب. مَن هُم هؤلاء العناصر؟ إنها "الحركة القومية المتّحدة" التي تُمثّل الأغلبية الناطقة بالأردية، اللاجئة من الهند إبّان تقسيمها عام 1947. هؤلاء هم "المهاجرون"، هذا هو اسمهم، ويمثّلون الحضَر، بينما السكّان الأصليون هُم من الناطقين بالسندية وغالبيتهم في الريف.

يضعنا فيلم "اللغة القاتلة" لعلي سهيل جورا أمام وحشية القتل بسبب الانتماء

ليست المرّة الأولى التي تدور حرب لغوية، بيد أنها الأشرس في "عملية التنظيف"، لأنها وقفت أمام دعوة متصاعدة لفصل مناطق الأغلبية الأردية عن السند، وهي الأغلبية الأعلى تعليماً والممسكة بمفاتيح الاقتصاد، ومؤسِّسة الاستقلال بقيادة محمد علي جناح. فما كان "عناصرَ" بات يطاول الناس الذين سيدفعون ثمناً باهظاً بسبب لغتهم، بعد أن فتح الصراع السياسي أسوأ أشكاله حين يُطلق مجتمعاً على مجتمع.

هذه الخلفية لا بدّ منها، لأن الفيلم الروائي القصير (18 دقيقة) يضع مُشاهده في ذروة العنف الدامي، وفي لحظة مكثّفة للاستباحة التي مضى عليها أكثر من ربع قرن، وما زالت حتى اليوم ملفّاً غير مغلق، إنْ لجهة المقتولين والمفقودين، أو لجهة الضحايا الذين يسقطون خلال فترة وأخرى بسبب الاستقطاب بين الجماعات المنتمية إلى لغات تعبّر فيها عمّا تراه حقوقاً مهدورة.

الصورة
من فيلم "اللغة القاتلة"
من فيلم "اللغة القاتلة"

في إحدى الليالي، يُقرع باب عبد العزيز الأنصاري (منوّر سعيد)، الأب المسنّ والمريض، ليخبره صديقا ابنه راشد بأنه في المستشفى بعد تعرضه لحادث. تفزع الكنّة الخرساء، نسيمة (أمتول باويجا)، وبين يديها طفلها الرضيع الذي لا يكفّ عن البكاء، وينطلق الجميع في حافلة قديمة تقطع طريقاً متوتّراً وتُسمع في الأثناء طلقات رصاص، وتُشاهد حرائق.

نقطة التفتيش الأمنية، التي تعترض الحافلة، لا تمارِس عملها الروتيني من تفقّد البطاقات الشخصية ورخصة القيادة، بل تنكّل بالسائق حين يكتشف الضابط الناطق بالسندية أن لغة الآخر أردية، بل وأنه يعمل مدرساً لهذه اللغة.

يصل الأهل أخيراً إلى المستشفى الذي يعجّ بالقتلى والجرحى ويعثرون على جثة ابنهم راشد. وفي الممرّ تجري مواجهة بينهم وبين الشرطي (سعد فريدي) غير المتّزن وفي فمه مضغة التنبول، إذ يستقوي عليهم بالسؤال: كيف يُقتَل امرؤ بست رصاصات من مسافة صفر؟ ليوضح للأب المسكين: إنكم، شعب الأردو، مؤمنون بأنكم تقتلون أو تُقتلون.

في هذه اللحظة تنفجر الكنّة الخرساء في وجه الشرطي بلغة لا يفهمها. وحين يطلبُ شرحاً، ينخرط الأب في بكاء ذليل قائلاً إن ابنه القتيل لا يتكلّم الأردية، لأنه ببساطة مثل زوجته أخرس.


ماركو
ثلاثة أشخاص يحملون اسم ماركو، أحدهم مخرج فيلم "ماركو" (Marko ــ 2021)، الكرواتي ماركو شانتيتش، والآخران الشخصيتان الرئيسيتان في الفيلم الذي يستغرق 17 دقيقة.

لا يَضعُنا المخرج في الحرب المريرة في يوغسلافيا التي اندلعت عام 1991 وتَفكّكت معها البلاد كما تَفكّك الاتحاد السوفييتي. نحن بعد سنوات طويلة، حيث يعيش زوجان مسنّان، ماركو (ماتي غولين) وزوجته أنكيكا (سنجيزانا شيشكوف)، براتب تقاعدي، داخل حدودهما السياسية الجديدة في كرواتيا، وقد كانت في السابق جزءاً من اتحاد يوغسلافي يضمّ معها صربيا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا، وسلوفينيا، والجبل الأسود. أصبح الآن لكل دولة مشروع ينقّح تاريخها ويجعل لها لغتها وكنيستها ومسجدها المختلفين، ويهرُب قدر استطاعته من الهوية الجامعة في يوغسلافيا السابقة.

لم يعد الكرواتي وزوجته يتكلمان اللغة الرسمية، الصربو-كرواتية، وهما الآن وحيدان في منزلهما، من دون ابنهما الشاب، الجندي الذي قُتل في الحرب بين الصرب والكروات.

في فيلم "ماركو" رجُلان باسمٍ واحد يفرّق بينهما النزاع الصربو ـ كرواتي

الزوج ماركو مسكونٌ بصورة وحيدِه المعلّقة على الجدار، وغرفته وملابسه التي ما زالت على حالها في الخزانة، بينما يراقب الاثنان مجموعات سياحية تستأجر غرف الجيران المتاحة مقابل مال يحسّن مستوى المعيشة. تقترح الزوجة تأجير غرفة الابن الراحل، ويرفض الأب، ثم يُذعن بعد إلحاحها، وحجّتُها بأن سنواتٍ مضَت على رحيل ولدهما لا تجعله نسياً منسياً، ولكنّ الحاجة للمال ماسّة ولديهما غرفة إضافية مهجورة.

يأتي المستأجر ماركو (فيدا ستويانوفيتش، الذي توفي بعد الانتهاء من تصوير الفيلم) لتستقبله الزوجة بترحاب، بينما يجلس الزوجُ ماركو على مضض، وهو الذي قرّر أن ينام في سرير ابنه في الليلة السابقة لقدوم رجل غريب سيحتلّ غرفة الابن.

الصورة
لقطة من "ماركو" للكرواتي ماركو شانتيتش
لقطة من "ماركو" للكرواتي ماركو شانتيتش

ماركو الأب يتصرّف في الصباح تصرّفاً غير لائق، إذ بعد مغادرة السائح البيت ليتنزّه في الأرجاء، يبدأ بتفتيش حقيبته، ليعثر على علبة دواء مكتوب عليها بالأبجدية السيريلية.

هذا صادم للرجل العجوز الذي يستضيف في غرفة ابنه القتيل رجلاً صربيّاً. الزوجة التي أبدت انزعاجها قالت إن السيريلية تُستعمل أيضاً في مقدونيا، والبحر الأسود، والمجر، ورومانيا، وصولاً إلى روسيا. لكنّه صربيّ في عين الزوج، بينما تَردّ الزوجة: "هو ليس صربياً، بل 200 يورو على قدمين".

"ماركو" الذي فاز مؤخّراً بجائزة أفضل فيلم روائي قصير في "مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان" في الأردن، ينتهي بأن الصربي، واسمه ماركو أيضاً، قدِم إلى المنطقة ليتذكّر طفولة ابنه الذي كان يوغسلافياً ثم أصبح صربياً وقُتل في الحرب.


تلك الأسماء
لورا (لورا شاب) فرنسيةٌ في الثلاثينيات، وهي الآن ــ في فيلم "تلك الأسماء" (Le nom des autres ــ 2022) من إخراج إيناس سعيدي، والذي تناهز مدّته عشر دقائق ــ داخل غرفة الطبيبة النفسية (ليلى دوريان)، في لقطة متواصلة تشهد تداعيات امرأة محطّمة لأسباب لغوية.

تُخبر المرأة طبيبها بأن زوجها كريم يصرّ على تسمية ما يُنجبان من أطفال أسماءً عربية. لا يريد لأي طفل من صُلبه أن يحمل اسماً فرنسياً. على حافّة الانهيار العصبي، تعلن المرأة أنها لا تتخيّل ابنها حامِلاً اسمَ محمد أو أسامة، أو أن تحمل ابنتها اسم فاطمة.

الصورة
من فيلم "تلك الأسماء"
من فيلم "تلك الأسماء"

والحال هنا مختلفة مع جيل فرنسي من نسل المهاجرين القدماء أو أبناء المستعمرات السابقة عن حال باكستانيين في كراتشي أو مواطنين يوغسلافيين انهارت دولتُهم. إن اللغة هنا مجال تعبير عن هُويات أصلية تحت طائلة الهوية الفرنسية الغالبة، أو النموذج الراقيّ، ما بين مندمِج وآخر في حوصلته، وما بين ممارِس لحقّه في أن يكون ذاته، وآخر عنصريّ.

يظهر أوضح ما يظهر أن لورا مسكونة بالخوف من موت ابنٍ لها بسبب اسمه العربي، أو أن تُضطرّ للتبرير إذا ما وقعت حادثة بأن تشابه اسمه بمجرّد المصادفة مع اسم شخص آخر ارتكب عملاً إرهابياً. هذه الانتباهة تمس مئات الملايين الذين يتحسّبون في ظروف عادية من أن سِحنتهم تجعل منهم محلّ اتهام، وأكثر من ذلك حين تكون أسماؤهم دالّة على شخصيات مرفوضة في هذا المكان أو ذاك. ثمّة اسما صدّام (حسين) وأسامة (بن لادن) مثلاً، وتسبقهما بالطبع الأسماء ممّا حُمّد وعُبّد.

تُساعد الطبيبة في فتح سيرة بعيدة لتكشف لورا أن خالها قُتل في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1961 وأُلقيت جثته في النهر خلال المجزرة التي نفّذتها قوى الأمن الفرنسية ضدّ المتظاهرين الجزائريين المسالمين قبل عام من استقلال الجزائر. دماء الشقيق دفعت أم لورا إلى التوقّف عن استعمال اللغة العربية وإلى تغيير اسمها، وزرعت في ابنتها فكرة راسخة: أن تكون عربياً يعني أن تُقتل.

المساهمون