هكذا أجهز البوليس الألماني على "مؤتمر فلسطين"

هكذا أجهز البوليس الألماني على "مؤتمر فلسطين"

13 ابريل 2024
قاعة المؤتمر بعد أن قامت الشرطة بتفريق المشاركين
+ الخط -
اظهر الملخص
- المشاركون في "مؤتمر فلسطين" ببرلين واجهوا تحديات من تحذيرات بعدم الذهاب وإعلان موقع المؤتمر متأخرًا لتجنب التضييقات، وسط محاولات لتجنب الاحتكاك مع مناصري الاحتلال والتشهير الإعلامي.
- برلين، التي تحاول التغلب على ماضيها بدعم اليهود الليبراليين، تجد نفسها في موقف معقد بسبب علاقتها الوثيقة مع إسرائيل، مما يضع اليهود المناصرين لفلسطين في موقف صعب.
- المؤتمر تعرض لتضييقات شديدة من السلطات الألمانية بما في ذلك تجنيد الشرطة، منع المشاركين، وقطع الكهرباء عن القاعة، مما يعكس التحديات الكبيرة للتعبير عن الدعم لفلسطين في بيئة معادية.

وصلنا إلى برلين قبل موعد انطلاق "مؤتمر فلسطين" بساعتَين. وهناك، بدأت تصل إلينا رسائل تنصحنا بأن نُوفّر على أنفسنا مشقّة الذهاب إلى موقع المؤتمر؛ فالشرطة تمنع دخول المشاركين وتُعرقل الاستعدادات لتنظيمه.

لم نُبلَّغ بموقع انعقاد المؤتمر إلّا قبل موعد انطلاقه بساعات قليلة، في محاولة من المنظّمين لتجنُّب التضييقات التي اعتادت عليها الشرطة مع أيّة فعالية للتضامن مع فلسطين، حتى بعد استيفاء كلّ الإجراءات القانونية. لا شكّ أنّ التضييق سيكون على أشدّه حين يتعلّق الأمر بأكبر فعالية مناصرة للقضية الفلسطينية، توافد إليها المشاركون من مختلف المدن الألمانية.

يريد المنظّمون، أيضاً، منْع تجمهُر أعداد من مناصري الاحتلال الذين حرّضهم الإعلام الرسمي لمحاصَرة القاعة، في حملة تشهير قادتها كبريات الصحف الألمانية، التي انبرت منذ أسابيع إلى إطلاق أشنع الأوصاف على المؤتمر والمشاركين فيه، ورميهم باتّهامات مرسَلة من دون أدلّة، مِن قَبيل "دعم الإرهاب" و"نشر الكراهية"... وطبعاً "معاداة السامية" التي باتت تُطلَق على كلّ من يجرؤ على أن يعترض على جرائم الاحتلال الإسرائيلي حتى لو كان يهودياً، بل حتى لو كان إسرائيلياً "يُمارس حقّه الديمقراطي" في الاعتراض على سياسات "دولته".

الصورة
مؤتمر فلسطين
الشرطة تحاصر المؤتمر

برلين، التي اكتسبت في السنوات الأخيرة صفة المدينة الحرّة.. يوتوبيا الإبداع، استقطبت - كما تقول الكاتبة اليهودية المُقيمة فيها ديبوراه فيلدمان - عدداً كبيراً من اليهود الليبراليّين؛ ومنهم من عاش أو وُلد في "إسرائيل". استفاد هؤلاء من القوانين الألمانية التي تُتيح لليهود من أصول ألمانية الحصول على الجواز الألماني أو الإقامة الدائمة فيها، رغبة منهم في عيش حياة أكثر حرّيةً، بعيداً عن الغلوّ الديني والأيديولوجي الذي تدفعهم إليه وتكاد تجبرهم عليه الصهيونية العالمية، التي تريدهم دائماً سفراء لها مدافعين عنها في كلّ بلدان العالَم.

هكذا كانت ألمانيا، التي ترفع شعار "التغلُّب على الماضي" وتفتح ذراعيها لليهود الذين طردت أجدادهم منها، خيار كثير من اليهود المثقَلين بيهوديتهم، والمجبرين دائماً على الدفاع عن بلد لم يختاروا أن يكون بلدهم أو تُختزَل هويتهم بانتمائهم إليه. هؤلاء يُفاجؤون اليوم بأنّ "التغلّب على التاريخ"، الذي تُسخِّر ألمانيا كلّ مقدّراتها لخدمته، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بكيان الاحتلال الذي ترى ألمانيا أنّ أمنه هو "جوهر الدولة الألمانية"، وبأنّ ألمانيا تُشارك بذلك "إسرائيل" والصهيونية العالمية في نظرتها الأحادية لتعريف اليهودية ودور اليهودي في التاريخ والمجتمع؛ وهو أن يكون سفيراً ناشطاً أو مقيماً مدافعاً عن "إسرائيل"، وأن يردّد الدعاية التي تريح ألمانيا وغيرها من دول الغرب من مسؤوليتها التاريخية: "إسرائيل" هي "الدولة الوحيدة الآمنة لليهود في العالم".

لهذا، لم يكُن مفاجِئاً أن يجرى التشهير بمنظّمة "الصوت اليهودي للسلام العادل في الشرق الأوسط" واتّهام أعضائها، رغم يهوديتهم، بمعاداة السامية، وإغلاق حساباتهم البنكية، بسبب تصدّرهم المناصرين لفلسطين، والداعين لوقف فوري لإطلاق النار ومحاكمة كلّ المتواطئين في جريمة الإبادة الجماعية في غزّة، متوِّجِين نشاطهم أخيراً بـ"مؤتمر فلسطين" تحت عنوان "سنحاكمكم"، والذي كان من المفترض أن نلتقي فيه بشخصيات بارزة للحديث عن الوضع الراهن في فلسطين المحتلّة، وبحث التطوّرات التاريخية والسياسية التي أدت إليه.

أكثر من ألفين وخمسمئة شرطي جُنّدوا لإفساد المؤتمر

ومع الإعلان الحذِر عن موقع انعقاد المؤتمر، بدأت وفود الشرطة، التي يبدو أنّها كانت تستعدّ لهذه اللحظة، بالتوجُّه إلى مكان القاعة بحجّة تنظيم الدخول والإشراف على سير الفعالية؛ إذ لم تكُن هناك أيّة مخالَفة قانونية يُمكن أن تستعملها ذريعةً لمنعه. بلغ عددُ عناصر الشرطة - كما نشر المؤتمر على صفحته الرسمية - ما يزيد عن ألفين وخمسمائة شرطي، رغم أنّ عدد الزوّار المتوقّع حضورهم لا يزيد عن ألف مشارك.

وحتى هؤلاء، بدأت الشرطة تبحث عن ذرائع لتقليل فرص دخولهم، لتُبلغ المنظّمين أنّ القاعة غير آمنة لأكثر من 250 مشاركاً، بالنظر إلى "قواعد السلامة والوقاية من الحريق"، رغم تأكيد المنظّمين أن القاعة تتّسع على الأقل لـ700 مشارك، مؤكّدين أنّ عناصر الشرطة احتلّوا المساحة الإضافية، ما أسهم في زيادة الخناق على المشاركين، علاوةً على شعورهم بالتوتُّر من حضور هذا العدد الهائل من عناصر وآليات الشرطة.

حتى نحن الذين لبّينا دعوة المؤتمر للتغطية الصحافية، وبعد حصولنا على تذاكر مخصّصة للصحافيّين، أُبلغنا بـ"محدودية المقاعد"؛ إذ أصرّ عناصر الشرطة على دخول حوالي خمسين صحافياً لم يكونوا مسجَّلين لدى إدارة المؤتمر، والذين جاؤوا لتغطيته لحساب صحف ألمانية كانت مشاركة في حملة التحريض عليه، على رأسها صحف "مجموعة شبرينغر"، المتَّهمة بمعاداة الفلسطينيّين وترويج الدعاية الصهيونية. وقد أعلن المنظّمون أنّ الشرطة أجبرتهم على إدخال هؤلاء الصحافيّين، بحجّة أنّ المؤتمر لم يعُد "مناسبةً خاصّة"، وأصرت إضافةً إلى ذلك على احتسابهم ضمن 250 شخصاً الذين سمحت بدخولهم في البداية.

الصورة
مؤتمر فلسطين
من قاعة المؤتمر

قبل ذلك بساعات، كان الجرّاح الفلسطيني غسّان أبو ستّة، الطبيب الذي قضى 43 يوماً في معالجة وإسعاف الجرحى في قطاع غزّة منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر، قد أعلن على حسابه على "إكس" (تويتر سابقاً) أنّ السلطات الألمانية منعت دخوله من مطار برلين الدولي؛ حيث كان متوجّهاً للمشاركة بمداخَلة عن تجربته في غزّة.

وفي محاولة لتجاوُز كلّ هذه المضايقات، دعت إدارة المؤتمر الحضور للتوجُّه إلى مناطق مختلفة تبثّ فعاليات المؤتمر عبر الإنترنت، من بينها بعض المقاهي في برلين. توجّهنا إلى مقهى صغير، لم يكن قد تجمّع فيه بعدُ أكثر من عشرة أشخاص، لكن مركبة الشرطة كانت حاضرةً، تراقب المقهى ومرتاديه. جلسنا أمام الشاشات ننتظر بدء فعاليات اليوم الأوّل، ولكنّنا لم نكن نرى من الكاميرا المثبتة على المنصّة الرئيسية سوى كرسيين فارغين وثلاثة أعلام فلسطينية، بينما يمرّ المشاركون ذهاباً وإياباً، في حركة متوتّرة. يَظهر بين فينة أُخرى بعض من عناصر الشرطة. وصلت إلينا رسائل بأنّ المؤتمر سيبدأ في أيّة لحظة وأنّ الشرطة تُصرّ على عدّ الموجودين في القاعة، للتأكُّد من عدم تجاوزهم 250 شخصاً.

بعد الموعد المحدَّد بحوالي ساعتين، تهيّأت الصحافية الفلسطينية هبة جمال لبدء مداخلتها، لكن عناصر الشرطة أصرّوا، أوّلاً، أن يقرأ أحد المنظّمين لائحة للمحظورات يبدو أنّ الشرطة كتبتها ارتجالاً وترجمتها إلى الإنكليزية والعربية، منها مثلاً منع حرق أيّ علم أو شعار دولة، ومنع الدعوة إلى إبادة أي مجموعة عرقية، لتُقابَل باستهجان وسخرية الحاضرين.

وبعد دقائق من استئناف هبة جمال كلمتها المؤثّرة، التي وصفت فيها المعاناة التي عاشها جدُّها الأكبر عام 1948 والتي تعيشها الآن أسرةُ زوجها المقيمة في غزّة، قاطعها رجال الشرطة من جديد مدَّعِين أنّ الناشط الذي قرأ لائحة الممنوعات باللغة العربية قد أسقط جملةً، ليُجبروه على قراءة اللائحة مرّةً أُخرى.

سلسلة التضييقات اكتملت بقطع الكهرباء عن القاعة

أمّا المداخَلة الثانية، فكانت للمؤرّخ الفلسطيني سلمان أبو ستّة، الذي لم يستطع أن ينتظر حوالي ثلاث ساعات جرى فيها تأجيل مداخلته عبر "زووم"، ليُضطرّ لإرسالها مسجَّلةً إلى قاعة المؤتمر. وما إن بدأ بثُّها، حتى اندفع عناصر الشرطة وطلبوا إغلاق الكلمة. وبعد دقائق طويلة لم نكن نسمع ما كان يدور فيها بين المشاركين وعناصر الشرطة من نقاش، قُطع البثّ، ليبدأ عدد من المشاركين بثّاً مباشراً من هواتفهم، مؤكّدين أنّ الشرطة قطعت الكهرباء عن القاعة، وأنّ عدداً من "عناصر مكافحة الشغب" اقتحم القاعة وأمر بإخلائها فوراً، مع إفساح المجال للصحافيّين الألمان بإتمام تغطيتهم.

لم تمض ساعات قليلة حتى أعلنت الشرطة إلغاء المؤتمر نهائياً من دون ذكر أسباب لذلك، بينما يؤكّد المنظّمون أنّ الأحاديث مع السلطات كانت كلُّها تتمحور حول "ما يُمكن أن يُقال"، بمعنى أن الشرطة ألغت المؤتمر لتخمينها أنّ المشاركين قد يقولون أشياء مخالفة، أو يتصرّفون بطريقة "غير قانونية"، الأمر الذي رأى فيه ممثّل "الصوت اليهودي" فيلاند هوبان "انزلاقاً إلى عالم ديستوبي، تستطيع فيه الدولة أن تتدخّل وتقمع في أيّ لحظة تشاء، مستندةً إلى بيروقراطية كافكاوية".

هذه تجلَّت في مشهدَين غريبَين؛ الأوّل قبل افتتاح المؤتمر، حين هاجم أفراد الشرطة ناشطاً يهودياً، وأسقطوا من يديه لافتة كُتبت عليها عبارة "أنا يهودي ضدّ الإبادة"، والثاني كان بعد المؤتمر، حين اعتقلت الشرطة ناشطاً يهودياً آخر يرتدي كيباه بألوان العلم الفلسطيني.

المساهمون