"فلك النص": مرايا الأغنية العراقية

"فلك النص": مرايا الأغنية العراقية

11 يناير 2016
وسماء الآغا / العراق
+ الخط -

يصدِّر الشاعرُ والباحث العراقي علي كنانة كتابه "فلك النص: في الغناء العراقي" (2016، منشورات الجمل)، بهذه الحكاية: "طلب مني عازفٌ فنلندي شاب يهوى الغناء ترجمة نصوص غنائية عراقية، وحين أنهيت ترجمة مضامين عدد من الأغاني، فاجأني بالقول: "أين الحياة في هذه الأغاني؟". وحين لاحظ نظرة الاستفهام في عينيّ، قال: "أقصد.. لا يوجد غير الحب موضوعاً.. ينبغي أن تكون الأغنية ذات صلة بالحياة".

هذه الملحوظة الفنلندية الآتية من خارج المألوف، غرست في ذهنه سؤالاً لم يمر به من قبل، ليس لأنها من الخارج فقط؛ خارج لغة مجتمع وتقاليده وأغانيه وبديهياته، بل لأنها جاءت في وقت خرج فيه شاعر وباحث عربي من الحاضنة العراقية إلى العالم في زمن الهجرات من المعلوم إلى المجهول. وستعمّق مصادفة أخرى هذا السؤال ذاته، وتأتي به هذه المرة على لسان ابنه الصغير حين كرّر سؤال العازف الفنلندي، وبالصيغة نفسها تقريباً.

عند هذه النقطة الأخيرة، بدأ كنانة يفكّر في الرحيل بحثاً عن مفردات الحياة في الأغنية العراقية، وليبرهن بالملموس من الأمثلة والإحصائيات، وبدراسة مضامين النصوص الغنائية العراقية، على أن هذه الأغنية أكثر غنى ممّا يتصوّر المستمع العابر.

وأنها بالفعل، كما رصد، تضمّنت مفردات الحياة والواقع وأنماط السلوك والتعابير الثقافية والوجدانية، وظواهر الطبيعة والمناخ وعناصر الكون والكائنات الحية، ومختلف وسائل وأدوات إنسان هذه الأرض في تعامله مع البيئة من حوله، كما تتضمّن علاقاته الاجتماعية والصراعات التي شهدها منذ القدم وحتى العصر الراهن.

وتظهر الدراسة أن الأمر لم يكن أمر مفردات فقط، بل أمر صور أداتها اللغة، الفصحى والعامية على حد سواء، ولم تكن هذه الصور مجرد انعكاس للواقع كما هو، بل كانت تجاوزاً لهذا الشرط، بأن مضت نحو استكشاف ممكنات أخرى وصور أخرى لهذا الواقع، ونحو إعادة بناء الوجدان، واقتراح صورة لوطن أكثر جمالاً وعدلاً وبساطة من صورته المترجرجة المسماة واقعاً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

والظاهرة اللافتة للنظر في الغناء العراقي، خصوصاً في فترة سبعينيات القرن العشرين، المعروف أنها شهدت تطوّراً غير مسبوق على صعيد كلمات الأغاني والألحان والأصوات الإنسانية، هي التناغم المدهش بين الشعراء الشعبيين الذين تحوّلت قصائدهم إلى أغان، أمثال مظفر النواب وذياب كزار (أبو سرحان) وعريان السيد خلف وجبار الغزي، وبين الملحنين البارزين أمثال كوكب حمزة وطالب القره غولي، والمغنين الذين أدّوا أغاني تلك الفترة، ومنهم ياس خضر وحسين نعمة وفؤاد سالم وقحطان العطار. وكانت هناك، إضافة إلى هؤلاء، أصوات نسائية مثل صوت أنوار عبد الوهاب وسيتا هاكوبيان، إلا أن حضورهنّ لم يتعمّق بقدر حضور الأصوات الرجالية.

هذا التناغم الذي كان يستحق من الباحث الالتفات إليه، وتناوله بأكثر من إشارة عابرة إلى مرحلة السبعينيات التي أحدثت ثورة في الأغنية كما قال، كان تعبيراً أميناً عن علاقة الأغنية العراقية بالحياة بالشكل الذي شهدناه.

وبيان ذلك أن هذا التناغم لم ينشأ بسبب وظيفي بين مجرد شعراء وملحّنين ومغنّين، بل نشأ بسبب حيوية الحياة السياسية، حين كانت لأبرز الفنانين العراقيين مواقف سياسية واجتماعية وإنسانية واضحة، أو كانوا، بعبارة أخرى، يعبّرون عن اهتمامهم بقضايا وطنهم والتزامهم وجدانياً وأخلاقياً وسياسياً بطموحات وآمال وتطلعات أكثر طبقات الشعب العراقي تعرّضاً للظلم والاضطهاد؛ أعني الطبقات المهمّشة، وأبرزها الطبقة العاملة والطبقة الفلاحية.

وهناك ظاهرة بارزة أخرى في الغناء العراقي لحظها الباحث وأطلق عليها مصطلح "الغزل السياسي"، مع أن هناك مصطلحاً فنياً أكثر دقة في أداء المعنى، هو "التورية". وقصد الباحث بأغنية الغزل السياسي تلك القصائد المغناة التي يتناول فيها الشاعر قضية سياسية بأسلوب فيه تورية؛ أي أنه يوهم أنه يتحدث عن حبيب أو قريب من قلبه أو وطن، بينما ينصرف قصده الخفي إلى الحديث عن حزب أو جماعة سياسية، ويحضرني هنا ثلاثة من شعراء التورية برزوا في هذا الفن هم: أبو سرحان في أغنية "أمشي وأكول وصلت"، ومظفر النواب في أغنية "البنفسج"، وزهير الدجيلي في أغنية "يا طيور الطايرة".

الملحوظ أن هذه "التورية" لم تكن تخفى على سلطات تلك الأيام، فكانت تضع الكثير من الأغاني على اللائحة السوداء، وتطارد شعراءها وملحنيها. أليس في هذا الجانب من تجربة الغناء العراقي، كلمة ولحناً وغناءً، ما يجيب على سؤال الهاوي الفنلندي؟

تعداد المفردات، ووضع جداول بموضوعات الأغاني، كأدلة على علاقة الأغنية العراقية بالحياة، جزء ضروري ومهم من البحث، ولكن متابعة مسألة العلاقة بين الأغنية والحياة يمكن أن تزداد غنى، ويمكن أن تكتسب معنى أوسع حين يمتد البحث إلى جانب العلاقة الإنسانية بين الفن والمجتمع في إطار ثقافي أوسع، وهو إطار أشار إليه كنانة لحسن الحظ كمشروع يقع عمله البحثي في سياقه.


اقرأ أيضاً: المقام العراقي.. أقول وقد

المساهمون