الدار البيضاء.. جروح كولونيالية

الدار البيضاء.. جروح كولونيالية

13 نوفمبر 2016
الدار البيضاء، تصوير: توول وبرونو موراندي
+ الخط -

هل يُمكن للمعماري أن يتعامل مع المنشآت العمرانية كتقني فقط، من دون أن يحاول النفاذ إلى جوهرها بمعنى ما؟ فالمعمار، وإلى جانب دوره الوظيفي والجمالي، يُعدُّ مجالاً للذاكرة والهوية بتمثّلاتها وتحوّلاتها. وهذه الزاوية تُتداوَل على نطاق واسع في مجال التحليل الثقافي ونظريات الخطاب ما بعد الكولونيالي.

في كتاب "الدار البيضاء.. الهوية والمعمار (1912 - 1960)"، الذي صدر مؤخّراً عن "دار سليكي أخوين" في طنجة، يحاول المؤلّفان المعماري رشيد الأندلسي والناقد يحيى بن الوليد، توثيق تاريخ وذاكرة المدينة المغربية في أثناء سنوات الاحتلال الفرنسي للبلاد (1912 -1956).

يُقدّم العمل، الذي يتوزّع على ثلاثة أقسام، حواريةً تجمع الناقد والمعماري في قراءة للفترة الكولونيالية التي تأكّدت فيها هوية الدار البيضاء المعمارية، من خلال أسماء وتيارات هندسية حديثة. كل لحظات الحوارات الثلاث بين المعماري والناقد، تحيلنا إلى كيفية التعامل مع "موروث استعماري" في المجال المعماري خصوصاً في مدينة الدار البيضاء، باعتباره من أكبر الموروثات المعمارية الموجودة في الضفّة الجنوبية للمتوسط، والتي تعود إلى فترة الاستعمارات في القرنين الـ 19 و20.

الأمر الفارق في هذا الكتاب، أن المؤلفين لا يتخذان الموقف النظري نفسه من الإرث المعماري الاستعماري، حيث لا يتقاسم المعماري الأندلسي آراء بن الوليد النظرية وتفضيله المقولات الأيديولوجية التي بلورتها "الدراسات ما بعد الكولونيالية"، بل يُبدي الأندلسي "قناعات راسخة واختيارات جمالية "حداثية" محدّدة، قد تكون صادمة أحياناً للكثير من الحساسيات التي نشأت في ظل التخلّص من آثار الاستعمار، ومن ثم تعلّقه الشديد بالموروث المعماري للدار البيضاء، خصوصاً الأوروبي منه".

يرى الباحث الأنثروبولوجي المغربي، محمد الصغير جنجار، في مقدّمة تحليلية للكتاب، أن المعماري رشيد الأندلسي، "يطمح لأن يدمج المغاربة الموروث المعماري الأوروبي للدار البيضاء في سرديات وحكايات هوياتهم وأفقهم المستقبلي وفي مكوّنات تاريخ المدينة وتراثها المعماري والمجتمعي، باعتبار هذه المدينة مختبراً معمارياً دولياً ومتحفاً مفتوحاً، وخصوصاً لأنها مشتل تحوّلات المجتمع المغربي والمنتجة بشكل استباقي آفاقه الآتية".

فالمعماري رشيد الأندلسي، لا يتردّد لحظة "في إعلان انتمائه إلى مغامرة "الحداثة المعمارية" التي دشّنتها الدار البيضاء في تاريخينا المعاصر، ضد "التقليدانية" التي لم تفتأ تكتسح مجالات مجتمعية وثقافية عديدة، بما فيها الفكر والفعل المعماريين".

ويواصل المعماري المغربي، "سواء في الهندسة المعمارية أو في مجال الخدمات الاجتماعية ككل، تثمين منجز هوبير ليوطي (جنرال فرنسي، وأول مقيم عام للمغرب، بعد احتلاله، من 1912 حتى 1925) في المغرب، إلى الحدّ الذي يجعل منه المؤسّس الأول للمغرب الحديث".

يقول الأندلسي "أنا لا أنتمي لجيل كان في اصطدام مع الاستعمار(...) فكرتي عن الاستعمار لا يمكن أن تكون هي نفسها للجزائري الذي تأثر بالمدرسة الدموية. (...) ولأنني مهندس معماري، ولأن المعمار هو المعيار، فموقفي على هذا الشكل".

بل إن "الإقرار بما أنجزه "الآخر" ممثلاً في ليوطي بصفة خاصة، يقفز -في أحيان- من دائرة الإعجاب نحو مربع التماهي"، فـ ليوطي بالنسبة للمعماري "جاء بتيار وفكر جديد. زحفه نحو المغرب ليس لتبيان العضلات (...) هو باني المؤسسات. وجميع الأشياء في المغرب الحديث بدأت معه. ترك ميراثاً إيجابياً وأوصل المغرب إلى نقاط إيجابية".

لذلك "لا بدّ من قدر من المسافة النقدية وإلاّ سنتجاوز السقوط في نزعة تمجيد الاستعمار نحو السقوط في نزعة من نوع آخر ذات صلة بعدم استحضار اختلاف العصور وشروط المقارنة"، كما يؤكّد بن الوليد.

يُوضّح بن الوليد، أن "الدار البيضاء كانت منتظمة ضمن خطاطة جغرافيا المغرب، كما كانت تتصوّرها فرنسا بطريقة منهجية ومنظمة، ومن ثم منتظمة في خطاطة التقليد المعماري الفرنسي الكبير كما اصطلح عليه".

لهذا اتخذ ليوطي "قرارات على المستوى المعماري كشفت عن "الأيدولوجيا الاستعمارية العنصرية" ذاتها. منها قراره الذي أفضى به، ومعه مهندسه المخلص بروست، إلى إنشاء أحياء أهلية للمغاربة منفصلة عن الأحياء الأوروبية مثل حي الأحباس. وزاد على ذلك أن جعل "مدن الأهالي" محرّمة على الأوروبيين بدليل تفادي أمراض الأوروبيين".

لقد كان هاجس ليوطي والاستعمار الفرنسي عموماً في حال الدار البيضاء، وفي إطار من المعمار ذاته، "اقتصادياً كولونيالياً؛ ومن ثم إعداد مدينة على المقاس جديرة بأن توفّر المناخ الأنسب للافتراس السياسي ككل".

ويتابع إن "فن المعمار بالنسبة إلى المستعمر كان وسيلة لإثبات تفوّق ثقافته وحضارته. ولذلك فإن الاتجاه المحافظ لليوطي في المغرب أو سياسته الإسلامية في المغرب، وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي، لا تعدو أن تكون مرحلة جديدة في الأيديولوجيا الكولونيالية الذكية لكيلا نقول القذرة".

ويشدّد على أن "المعمار كان، بدوره، محكوماً بالنسق ذاته الذي هو نسق الاستعمار في وحدته السياقية الكبرى التي كانت تتغذى من الانتشار والافتراس في الوقت ذاته".

وقد وقف الكاتب هنا، عند حي "بوسبير" في الدار البيضاء، المحجوز للدعارة الكولونيالية، الذي وضع تصوّره كل من "ألبرت لابراد" و"بريون" و"كاديت"؛ هذا المنجز الاستعماري يمثّل "جرحاً كولونيالياً".

المساهمون