"مكتبات الكرامة": أجل، الفقراء يحبّون القراءة

08 فبراير 2016
(بائع كتب في القاهرة، تصوير: ديفيد أ. كوردوفا م.)
+ الخط -

كان طفلاً يلاحق شقيقه الأكبر في طريق مكتبة مدرسة "دروة الابتدائية المشتركة" في قرية ملوي في محافظة المنيا، جنوبي مصر. لم يكن يدرك حينها أنه كان يلاحق حلمه في أن يصبح كاتباً.

في المرحلة الابتدائية، قرأ إسماعيل عبد الحميد (26 عاماً) "المكتبة الخضراء"، وهي سلسلة قصصية مصوّرة للأطفال. وفي المرحلة الإعدادية، كان كأبناء جيله، يسعى لقراءة سلسلة "الرجل المستحيل"، وغيرها من كتب الإثارة والتشويق.

في المرحلة الثانوية، تحوّل نَهَم عبد الحميد للقراءة إلى "الاستعراض"؛ إذ راح يتفاخر بكمّ الكتب التي قرأها، وإلمامه بأسماء الكتّاب والشعراء. وفي الجامعة، دفعته المراهقة إلى قراءة أشعار نزار قبّاني وقصص يوسف إدريس، وخصوصاً "نظرة"، ثم اكتشف أن كل ما قرأه يسير به نحو الكتابة، وهو حالياً يعمل صحافياً، وله كتابات أخرى.

"عانيتُ من صعوبة اقتناء الكتب.. كنت أقرؤها في مكتبات الجامعة فقط. وحين التقيت الروائي الفلسطيني، يحيى يخلف، أثناء توقيع كتاب له في واحدة من مكتبات الزمالك، شكوتُ له غلاء أسعارها، وعدم قدرتي على دفع ما لا يقل عن خمسين جنيهاً مقابل كتاب واحد".

بدأ الشاب القادم من صعيد مصر، في تتبّع معارض "الهيئة العامة للكتاب المصرية"، ومكتبات الأسرة، ولا ينسى حين أعلنت الهيئة بيع كل عشرين كتاباً بخمسة جنيهات فقط: "ذهبتُ فوراً إلى الهيئة، وكنت أنتقي عناوين الكتب التي تشدّني، لأجمع عشرينات منها، وأقضي العام في قراءتها".

كان عليه أن يبدأ رحلة البحث عن الكتب في القاهرة؛ فمصر تفتقر لفكرة المكتبات العامّة، وحثّ الأجيال الجديدة على القراءة، بحسب الشاب الصعيدي الذي يضيف "إن خُيِّر رب أسرة على شراء طعام أو كتب لأبنائه، فإنه بالطبع سيشتري الطعام".

من حيث انتهى عبد الحميد، بدأ المحامي والناشط الحقوقي، جمال عيد، حديثه عن تجربة المكتبات العامّة في مصر، بدحض مقولة "الفقراء لا يهتمّون بالقراءة. هم فقط يبحثون عن الطعام والشراب". على هذا الأساس، قامت فلسفة تأسيس مكتبات عامّة في عدد من الأحياء الشعبية في أعقاب ثورة 25 يناير تحت اسم "الكرامة"؛ "هناك دائماً منتفعون من الجهل والفقر والتغييب"، يقول عيد الذي أسّس سلسلة مكتبات في عدد من الأحياء الشعبية، بمساعدة عدد من الكتّاب والمثقّفين.

انطلقت المبادرة أوائل 2012، بإنشاء خمس مكتبات عامة في خمس مناطق شعبية؛ هي الخانكة ودار السلام وطره البلد وبولاق الدكرور في القاهرة، والزقازيق في الشرقية، في انتظار فتح ثلاث مكتبات أخرى.

أُنشئت أولى مكتبات مجموعة "الكرامة" باسم "خطوة" في حي دار السلام جنوبي القاهرة، الذي يُطلَق عليه اسم "الصين الشعبية"، بسبب احتوائه على أكبر كثافة سكانية في القاهرة. وقد أعلنت عن هدفها منذ البداية: "المعرفة والتفكير العلمي والمنطق هو الطريق الوحيد لتقدّم الفرد وتحضّر الأمم. تهدف المكتبة لنشر المعرفة وتشكيل وجدان أهل المنطقة وخصوصاً الشباب والأطفال، والتفاعل مع أصحاب الفكر". لا تتجاوز مساحة المكتب مائة متر مربع. يفسّر عيد ضيق مساحة المكتبات بكونها "كانت في الأصل أكشاكاً أو مقاهيَ شعبية".

تفتح المكتبة أبوابها يومياً من الرابعة عصراً، وحتّى العاشرة مساءً، عدا الجمعة وأيام العطلات الرسمية، وتنظّم فعاليات ثقافية وتعليمية؛ منها دورات خاصة باللغات والكمبيوتر، وندوات حول موضوعات وقضايا مثل العادات والتقاليد والتمييز والفنون الشعبية، وعروض سينمائية ومسرحية وكورال للأطفال، إضافةً إلى أنشطة الرسم والتلوين، ومسابقات الأعمال الفنية والأبحاث العلمية.

يعتبر عيد أن مكتبات "الكرامة" من أنجح المبادرات بعد الثورة: "لم يتحمّس الجمهور للفكرة فحسب، بل تبنّاها كتّاب ومثقّفون، وانهالت التبرّعات على المكتبات من كل اتجاه". يضيف: "استقبلنا في البداية، حوالي ثمانية آلاف كتاب، وهذا وفّر الكثير من الأموال، لتوجيه إنفاقها على تطوير المكتبات وشراء أدوات ومعدّات حديثة، قادرة على استقبال أنشطة ثقافية وعلمية". يؤكّد عيد أن المبادرة تحرص على استقلاليتها: "نحرص على الابتعاد عن الجانبين السياسي والديني في جميع أنشطتنا. هناك بالطبع كتب سياسية ودينية، ولكن فعالياتنا تنأى عن أية أنشطة حزبية أو دينية أو انتخابية".

بالرغم من نجاح مكتبات "الكرامة" الخمس، يؤكّد عيد أن ثمّة تخوّفات من تعميم الفكرة وتوسيع روافدها، بسبب الأوضاع السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد منذ قرابة عامين، وخشية الزجّ بالعمل الأهلي والمجتمعي العام في إطار الحرب على المنظّمات الحقوقية والعمل الأهلي: "لدينا الإمكانيات، ولكن الخوف من التوجّهات الأمنية، وبعض أجهزة الدولة، سواء المعادية منها للثقافة، أو التي تخشى اتخاذ القرار. الكرة حالياً في ملعب الدولة".

عدد من الأحزاب السياسية تبنّى أيضاً تجربة المكتبات العامة، منها حزب "الدستور" الذي شارك في تأسيس عدد من المكتبات العامة على غرار "الكرامة".

لتقييم التجربة، يستند عيد إلى عدد من المؤشّرات التي يصفها بالإيجابية؛ مثل: "الإقبال على المكتبات، ومشاركة الجمهور في الأنشطة الثقافية والتعليمية المتنوّعة، وظهور بعض النماذج والأعمال الرائدة من خلال مسابقات المكتبات". ويبلغ متوسط المستفيدين من مكتبات "الكرامة" العامة، شهرياً، قرابة خمسة آلاف شخص، بحسب دراسات التقييم التي أجرتها "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان"، مؤخّراً. يزداد الإقبال على المكتبات في فترات الإجازة الصيفية من المدارس، والعطلات الرسمية والأعياد، ليصل قرابة 120 زائراً يومياً، فيما ينحصر في أوقات الدراسة إلى قرابة 40 زائراً يومياً، بحسب مدير عام المكتبات، إبراهيم اللبان.

يؤكّد عيد أهمية مثل هذه المبادرات في جعل القراءة والكتب في متناول الجميع. هنا يستعيد تجربة مكتبة "الأسرة" التي أشرفت عليها زوجة الرئيس السابق حسني مبارك: "رغم عدائي الشديد لنظام مبارك، فإني لن أتردّد في الاعتراف بأن مكتبة الأسرة كانت مفيدة". يضيف: "صحيح أن سوزان مبارك كانت تضع صورتها على كل كتاب، ولكن تجربتي مكتبة الأسرة ومهرجان القراءة للجميع، أسهمتا بشكل كبير في ترويج ثقافة القراءة في مصر، من خلال طرح الكتب بأسعار متواضعة للغاية".

بدأ مشروع "مكتبة الأسرة" خلال اللجنة العليا لـ "مهرجان القراءة للجميع" برئاسة سوزان مبارك عام 1994، وتخصّص في نشر الأعمال الأدبية والفكرية والفلسفية وبيعها بأسعار رمزية.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدولة العربية والكتاب
تبدو العلاقة الرسمية بالكتاب، في مجمل البلاد العربية، علاقة باردة، إنها في الغالب محكومة بما يسمى بالسياسة الثقافية، والتي هي سياسة تكون على هامش بقية السياسات؛ الأمنية بدرجة أولى والاقتصادية والاجتماعية. من هنا، كانت المبادرات الرسمية في الدفع بالكتاب نحو مقروئية أكبر محتشمة، إلا في ما تعلق بمصالح دعائية تتبنّاها الدولة. هكذا، فلا يوجد في الأفق سوى مخارج المبادرات المدنية على محدودية قدراتها.




اقرأ أيضاً: "القاهرة للكتاب": نكتة العثور على قارئ

المساهمون