الاستثمار بالمحرر السوري.. الكرة في الملعب التركي

الاستثمار بالمحرر السوري.. الكرة في الملعب التركي

21 يناير 2024
دور تركيا مهم في تشجيع الاستثمارت في الشمال السوري المحرر (الأناضول)
+ الخط -

كثيرة هي المدارس والنظريات التي حارت في تحديد أولويات جذب الاستثمار، أو عوامل تحفيز رؤوس الأموال لتستثمر وتوطن مشروعات في هذه البيئة أو تلك، رغم أن مسلّمات أو قواسم مشتركة، تتفق عليها تلك النظريات، بصرف النظر عن المنطقة أو العوامل السياسية، أو حتى نسب العائدات وإنفاق المستهلكين.

قد يأتي الأمن والأمان في مقدمة عوامل الجذب، لأن رأس المال ليس جباناً كما يُشاع، بل هو حريص على ألّا يجازف في مناطق غير مستقرة أو مرشحة للصراع والنزاعات.

ولعل ما شهدناه في إسرائيل من هروب رساميل وشركات واستثمارات، جراء الحرب على غزة، رغم كل الدعم والتبني الدولي للكيان، يدفع عاملَ الأمان إلى مقدمة مطالب المستثمرين، ليكون، ربما، كل ما عدا الأمان تفاصيل يمكن البحث فيها والإفتاء حولها.

بيد أن ذلك لا ينفي ضرورة تحقيق شروط وتوافر عوامل، تزيد من تهافت الرساميل أو إحجامها، كوضوح القوانين وثباتها وسياسة اقتصادية حالمة تتمخض عن شبكة مالية ونقدية مشجعة، إن لم نأتِ على سعة الأسواق وحجم الاستهلاك، أو التمويل وما تمنحه مصارف الدول أو المناطق الراغبة في الجذب.

وتطول قوائم عوامل جذب الاستثمارات، لتشمل في ما تشمل، سمعة الدول الحاضنة وتكاليف الإنتاج فيها، وقدرة من فيها على الإنفاق، وصولاً إلى ما تقدمه من ميزات وإعفاءات وإغراءات للتمايز عن سواها من الدول الساعية للرساميل.

وهناك اتفاق على أنّ الاستثمارات تعظّم القيم المضافة من المواد الأولية، وتمتص فائض البطالة، وتحسّن الإنتاج المحلي، وتزيد الاستغناء عن المستوردات، ما يؤدي بالنهاية إلى زيادة القطع الأجنبي عبر التصدير وزيادة نموّ الناتج الإجمالي.

إذاً، لو قسنا تلك العوامل وغيرها على المناخ الاستثماري شمال غربيّ سورية "المناطق المحررة" التي أقامت قبل أيام، أول مؤتمر استثماري في مدينة الراعي شماليّ حلب بعنوان "الاستثمار استقرار- تنمية وازدهار"، فعلى الأرجح لن تتحقق معظمها إن لم نقل جميعها، فالمنطقة عرضة لأي تصعيد عسكري بواقع القصف الأسدي الروسي المستمر، ويعاني سكانها من الفقر وتفتقر المناطق المحررة إلى منظومة مالية وشبكة مصرفية.

ولكن بالمقابل، وأمام هاتيك النظرة المتشائمة المتشددة، أليس من المنطق، الواقعي والاقتصادي أن نسأل: كيف جذبت المنطقة بعض الأموال وحضر المؤتمر أصحاب رساميل سوريون وغير سوريين؟

الإجابة، أنه بعد طفرة ونهضة عقارية تشهدها المناطق المحررة منذ أعوام، حتى وإن كانت المشروعات الموطّنة، في معظمها، صناعات لمسة أخيرة وذات دورة رأسمال سريعة، الأمر الذي يعزز فرضية عدم الأمان وعدم العمل على استثمارات استراتيجية، من شأنها تنمية المنطقة واستثمار مواردها، أكثر من اللهاث وراء الربح واستغلال إغراءات التوطين.

قصارى القول: تأتي تركيا ربما، كلمة السر الأولى والأساس بتوفير، ولو بعض عوامل جذب الاستثمارات واستقطاب الرساميل لشمال غربيّ سورية، لأنها صاحبة المصالح الكبرى والتي تزيد ربما، على ما سيجنيه سكان المنطقة السوريون.

كذلك إن تنشيط الاستثمارات في منطقة بكر، واستغلال المواد الأولية الهائلة، والزراعية أولاً، سيعودان بالنفع على السوق التركية المهددة اليوم بالركود الزاحف، جراء التضخم المرتفع، وينعكس على الدولة، باعتبارها رئة المنطقة المحررة والمنفذ الحدودي الوحيد لدخول المواد الأولية والمصنعة وخروجها.

وتركيا الوحيدة القادرة، لدورها الإقليمي ووجودها ضمن الدول الضامنة، على تحقيق الأمان والثقة للمستثمرين، عبر توافقات مع "الروسي والإيراني" لتحصد أهم مخرجات العملية، وهي عودة السوريين من أراضيها، بعد أن يتوافر الأمان وفرص العمل وسبل العيش الكريم بالشمال السوري المحرر، فتضرب من النتائج، الاقتصادي والسياسي، في آن واحد.

بيد أن ثمة ضرائب أو أثماناً، على أنقرة ألّا تتردد بتقديمها، إن بدأت، كما أسلفنا، من تقديم ضمانات لأصحاب الرساميل ليطمئنوا على أموالهم وحقوقهم وموجوداتهم من خلال تأسيس شركات تأمين وغير ذلك من عوامل الطمأنة، لا تنتهي عند التسهيلات المصرفية والقروض ومنح المنتجات شهادة منشأ تخوّل السلع عبور الحدود ودخول الأسواق الإقليمية والدولية.

وهذا بالتأكيد لا يُعفي القائمين على المنطقة، من حكومة سورية مؤقتة أو القوات المسيطرة، من أدوارهم التي تتجلى أولاً بتوفير مظلة قانونية واضحة تلغي الإتاوات والبلطجة وتخويف الرساميل، بعد أن تشرعن بوضوح لما يجذب الأموال من قوانين استثمارية وضريبية.

نهاية القول: ينقل عن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حينما أغدق الميزات والإعفاءات للاستثمارات الخارجية في ثمانينيات القرن المنصرم، أن رجال أعمال الإمارات ضجوا وتقدموا بشكايات، على الأقل ليعاملوا كما المستثمرون الأجانب، فقال قولته المشهورة: حينما ترون مستثمراً يُخرج مشروعه بحقيبة سفره، أنزلوه من الطائرة.

بمعنى، المستفيد الوحيد استراتيجياً وتكتيكياً من الاستثمارات، وعلى الصعد جميعها، سكان المناطق المحررة شمال غربيّ سورية، فالمشاريع ستكون على أرضهم، تستثمر موادهم الأولية وتشغل شبابهم وتحدّ من البطالة والفقر.

لذا، عليهم التفكير بذهنية الدولة الوطنية، لا العصابات، وعليهم السعي لضمّ مناطق إدلب، بشكل أو بآخر، لحدود الجذب والاستثمار، وعليهم تقديم كل ما يمكن، لإغراء الأموال بمنطقة، حقيقة الأمر، هي ككنز مواد أولية وأيدٍ عاملة مطمور، ما على المستثمرين سوى إخراجه وتلميعه ليكون له بالأسواق، حظوة وطلباً ومنافسة.

فإن كانوا جادين وفعلوا، فسيسوقون فضلاً عن الفائدة الاقتصادية، أنموذجاً للمترقبين ومن يهمهم الأمر، مفاده أن المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، ليست صالحة للعيش فحسب، بل فيها حوكمة وديمقراطية وأمان، بدليل تهافت الاستثمارات.