طلبت عدة مؤسسات عالمية كبرى من موظفيها العودة للعمل من المكاتب والتوقف عن العمل عن بعد في ظل تراجع مخاطر وباء كورونا وتزايد مشاكل هذا النوع من العمل وتأثيراته السلبية على الإنتاجية.
من بين تلك المؤسسات "سيتي بنك" و"أمازون" و"فيسبوك" و"غوغل" و"غولدن مان ساكس" و"جي بي مورغان".
لكن في المقابل يتحفظ الموظفون على تلك التعليمات بل ويرفضها بعضهم لأسباب عدة منها أن خطر الوباء لا يزال قائما في ظل النتائج التي تم الكشف عنها أخيرا، حيث سجلت الولايات المتحدة وفرنسا وعدة دول حول العالم ارتفاعا ملحوظا في عدد الإصابات بفيروس كورونا هذا الصيف، مع ظهور متحور "إيريس"، ما استدعى مزيدا من اليقظة، بالرغم من عدم بلوغ المتحور مستويات عالية.
امتد الخلاف أيضا إلى الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث والتي يري كثير منها إيجابيات عدة للعمل من المنزل.
وبحسب العديد من الخبراء، فإنه يوفر للموظفين قدرًا أكبر من المرونة والاستقلالية في ما يتعلق بجداول عملهم وبيئاتهم. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين التوازن بين العمل والحياة وتقليل مستويات التوتر، مما يساهم في الرضا الوظيفي العام.
العمل عن بعد يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين التوازن بين العمل والحياة وتقليل مستويات التوتر، مما يساهم في الرضا الوظيفي العام
كذلك، يؤدي العمل عن بُعد إلى توفير التكاليف حيث يقلّص أصحاب العمل نفقات مساحة المكتب والنفقات العامة، بينما يمكن للموظفين توفير تكاليف التنقل والنفقات المتعلقة بالعمل.
في السياق، أعرب كاري كوبر، أستاذ علم النفس التنظيمي والصحة في كلية مانشستر للأعمال، عن مخاوفه بشأن الجوانب السلبية المحتملة للعمل عن بعد، بما في ذلك زيادة الشعور بالعزلة والإرهاق.
أمّا كريستينا إنفرسي، أستاذة مشاركة في جامعة أكسفورد، التي تركز أبحاثها على تأثير العمل عن بعد على رفاهية الموظف، فتقترح أن العمل عن بعد يمكن أن يقدم أفضل النتائج.
وتركز كاثرين بيلي، محاضرة في جامعة كينغز كوليدج لندن، على الرفاهية والتوازن بين العمل والحياة. وتشير أبحاثها إلى أن العمل عن بُعد يمكن أن يساهم في تكامل أفضل بين العمل والحياة، لكنه يتطلب دعمًا من كل من أصحاب العمل والموظفين.
وسط هذا الخلاف المحتدم بين قيادات الأعمال والشركات والموظفين لا تزال ظاهرة العمل عن بعد مستمرة في العديد من دول العالم، ولم تترك بصماتها فقط على الشركات والهيئات الحكومية، بل أحدثت تغييرات جذرية في روتين ما يقرب من 60% من السكان من خلال تأثيرها على سلوك المستهلك والأنشطة الترفيهية.
وتبرز المملكة المتحدة بين الدول التي تتصارع مع التداعيات الأكثر عمقًا للظاهرة، بحسب دراسة شاملة حول العمل الهجين أو العمل عن بعد، أجرتها مؤسسة الفكر الاقتصادي الألماني "Ifo"، التي جمعت بيانات من الدول الصناعية الكبرى.
توقع محلّلون من بنك "مورغان ستانلي"، فترة طويلة من العرض المفرط في أسواق المساحات المكتبية العالمية، قد تمتد من 5 إلى 13 عامًا
وكشفت أن المكاتب التي كانت في الماضي تعج بالموظفين تعاني اليوم من الفراغ. كما يرفض عدد كبير من الموظفين المهرة والمهنيين، الذين استمتعوا بالمرونة الممنوحة لهم من خلال العمل عن بعد خلال وباء كوفيد19، العودة إلى المكاتب.
وتوقع محلّلون من البنك الاستثماري الأميركي العملاق "مورغان ستانلي"، فترة طويلة من العرض المفرط في أسواق المساحات المكتبية العالمية، قد تمتد من 5 إلى 13 عامًا، وذلك نتيجة تحديات تتمثّل في ارتفاع تكاليف الاقتراض والتأثير الدائم لنماذج العمل الهجينة، التي تتميز بمزيج من العمل عن بعد وداخل المكتب وتقلّل بالتالي من الطلب على المساحات المكتبية التقليدية، كما تفرض قيودًا على سقف تسعير الإيجار.
والعمل من المنزل ظاهرة حديثة نسبياً، فقبل عام 2020 كان هو الاستثناء وليس القاعدة. وكان هذا النوع من العمل نادرًا نسبيًا في العام 1981 عندما أفاد 1.5% فقط من العاملين بأنهم يعملون من المنزل بشكل رئيسي، ولكن بحلول عام 2019 تضاعف ثلاث مرات إلى 4.7% وفق تقرير بعنوان: "العمل المنزلي في المملكة المتحدة: قبل وأثناء تأمين 2020"، الصادر عن WISERD (تعاون بين 5 جامعات في ويلز تم تعيينه من قبل الحكومة كمركز أبحاث وطني). وارتفعت نسبة الذين أفادوا بأنهم عملوا حصريًا من المنزل من 5.7% من العمال في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2020 إلى 43.1% في إبريل 2020. أما قبل الوباء، فكان الموظفون يذهبون إلى المكتب بمعدل 3.8 أيام في الأسبوع.
وبحسب مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني، ارتفعت نسبة العاملين من المنزل بين ليلة وضحاها خلال فترة الإغلاق في مارس/ آذار وإبريل/ نيسان 2020، وبلغت 46.6%. وقام 57.2 % من الأشخاص الذين يعيشون في لندن ببعض الأعمال في المنزل. واعتبارًا من مايو 2023، كان 39% من العمال في البلاد قد عملوا من المنزل في وقت ما، بينما قال 73% من العمّال إنهم توجّهوا إلى العمل من المكتب.
يثير مسار مستقبل العمل عن بُعد في المملكة المتحدة، ردودا عديدة ومجموعة متنوعة من وجهات النظر التي تتقارب لتظهر اتجاها واضحا، وهو "العمل الهجين".
ويعكس هذا النموذج المتطور ميول الموظفين إلى تبني نهج دقيق لبيئة عملهم، يحقق التوازن بين وسائل الراحة للعمل من المنزل والأجواء التقليدية للمكتب.
ففي عام 2020 قال 50 من أكبر أرباب العمل في المملكة المتحدة الذين تحدّثت إليهم هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، إنهم لا يخططون لإعادة جميع الموظفين إلى المكتب بدوام كامل في المستقبل القريب.
ارتفع معدل شغور المكاتب في قلب العاصمة لندن، إلى 8.9%، متجاوزًا المعدل الوطني، بزيادة من 5% مع بداية الوباء
من جهتها، قالت شركة كلاتونز، الوكيل العقاري، في مراجعتها للمساحات المكتبية في المملكة المتحدة، إنه في الأشهر الثلاثة حتى نهاية يونيو/حزيران، بلغ معدل المساحات الشاغرة 7.6%، وهو أعلى مستوى منذ 2014. ومن المتوقع أن يصل إلى 9% العام المقبل.
وارتفع معدل شغور المكاتب في قلب العاصمة لندن، إلى 8.9%، متجاوزًا المعدل الوطني، بزيادة من 5% مع بداية الوباء.
وبالنظر إلى التبني واسع النطاق للعمل الهجين، واحتمال بلوغ معدلات شغور أكثر وضوحًا، أدى تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إحداث تحوّل فريد في هذه النقطة، وفقًا لرؤى مورغان ستانلي، يمكن أن تُعزى الديناميكيات الحالية لسوق المكاتب إلى تداعيات قرار المملكة المتحدة بالخروج من الاتحاد، وعلى وجه التحديد الحدّ من نشاط البناء والتشييد. ممّا أدى إلى تراجع جاذبية بريطانيا في أنشطة المضاربة، الذي يشار إليه بالعامية باسم "الأموال الساخنة"، وبالتالي إضعاف توسع قطاع العقارات.
على النقيض من تدفق مثل هذه الاستثمارات إلى وجهات عالمية أخرى، فإن التأثير الناجم عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قلّص من ارتفاع معدلات الوظائف الشاغرة في مواجهة مشهد العمل المتطور.
وحالياً، نشهد قلق أرباب العمل بشأن إنتاجية الموظفين الذين يعملون من المنزل، مما يضعهم في مسار تصادمي مع العديد من الموظفين الحاليين والمحتملين المصمّمين على تجنّب المكتب.
في الواقع، كشفت نتائج دراسة أجراها معهد أبحاث "مركز المدن" حول سلوك العاملين في المكاتب في العاصمة، عن تحوّل كبير في ديناميكيات مكان العمل، حيث يكرّس الموظفون الآن 59% فقط من الوقت الذي يقضونه في مكان العمل، ويسلط هذا التحول الصارخ الضوء على التأثير الدائم لـ كوفيد 19 على عادات العمل.
حالياً، نشهد قلق أرباب العمل بشأن إنتاجية الموظفين الذين يعملون من المنزل، مما يضعهم في مسار تصادمي مع موظفين مصمّمين على تجنّب المكتب
علاوة على ذلك، تؤكد الدراسة على أنّ أكثر من ثلث المستجيبين أعربوا عن استعدادهم للاستقالة إذا واجهوا ضغوطا بالعودة إلى العمل في المكتب بدوام كامل. وتشهد هذه الإحصائية على التحول العميق في المواقف تجاه ترتيبات العمل، حيث يواجه نموذج المكتب التقليدي من التاسعة صباحا إلى الخامسة مساء مقاومة لمصلحة بدائل أكثر مرونة.