تحويلات المغتربين المصريين في مفترق طرق

تحويلات المغتربين المصريين في مفترق طرق

12 مارس 2024
الحكومة مارست مجموعة من الإجراءات الأمنية من أجل السيطرة على سوق الصرف (Getty)
+ الخط -

ظلت تحويلات العاملين المصريين في الخارج، أحد أهم روافد النقد الأجنبي على مدار العقود الماضية، إلا أنها تتأثر في بعض الأحيان سلبيًّا لأسباب تتعلق بطبيعة سعر الصرف في مصر، ومدى تعبيره عن آليات العرض والطلب.

فكلما كان سعر الصرف في البنوك أقل مما ينبغي أن يكون عليه، وتعجز البنوك عن توفير متطلبات المستوردين والمسافرين من النقد الأجنبي، لجأ الأفراد والمؤسسات إلى السوق السوداء، لتدبير احتياجاتهم، وهو ما يجعل تحويلات العاملين في الخارج، في هذه الظروف أحد أهم موارد السوق السوداء، ووقتها تتراجع أرصدة تحويلات العاملين في الخارج لدى البنك المركزي المصري.

والمتتبع لسوق الصرف المحلي في مصر يلحظ أن السوق السوداء للعملات الأجنبية، انتعشت خلال عامي 2022 و2023، بسبب سياسة حماية سعر الصرف التي تبنّاها البنك المركزي، وأدت إلى تحمل الجهاز المصرفي لفاتورة عالية، كان أحد مظاهرها اختفاء نحو 10 مليارات دولار من تحويلات العاملين في الخارج، لتذهب للسوق السوداء.

ويرجع العجز في تدبير النقد الأجنبي بمصر إلى طبيعة العلاقة الاقتصادية المختلة مع العالم الخارجي، فثمة مجموعة من السلع الاستراتيجية تُستورد من الخارج، كما أن الحكومة أسرفت خلال السنوات العشر الماضية في الدين الخارجي من أجل تمويل مشروعات لا تمثل أهمية اقتصادية واجتماعية خلال هذه الفترة.

ومارست الحكومة المصرية خلال عامي 2022 و2023، مجموعة من الإجراءات الأمنية من أجل السيطرة على السوق السوداء، ولم تفلح، لأن السوق السوداء كانت المخرج لأزمة عجز البنوك عن الوفاء باحتياجات الأفراد والمؤسسات، أو إعطائهم مدخراتهم من النقد الأجنبي بالكميات التي يريدونها، أو تحويلها إلى الخارج لحساب العملاء، وفاء لاحتياجاتهم.

وكانت بيانات تحويلات المصريين العاملين في الخارج صادمة، في نهاية يونيو 2023، فقد انخفضت إلى 22.07 مليار دولار، بعد أن كانت 31.9 مليار دولار في يونيو 2022، واستمر تراجع التحويلات خلال الربع الأول من عام 2023/2024، ووصلت إلى 4.5 مليار دولار، مقابل 6.4 مليار دولار للفترة المماثلة من عام 2022/2023.

ولكن بعد الخطوات التي اتخذتها الحكومة المصرية في 6 مارس 2024، من تخفيض قيمة الجنيه داخل البنوك ليلامس 50 جنيهاً للدولار، ورفع سعر الفائدة بنحو 6%، فهل سيعود أصحاب التحويلات من الخارج إلى التعامل مع السوق الرسمية؟

متى تعود المليارات للبنوك؟

من خلال القراءة الأولية لما حدث من تخفيض قيمة الجنيه في السوق الرسمية، وكذلك تخفيض سعر الفائدة، قد يذهب بعضهم إلى أن الوضع الطبيعي هو أن يتم القضاء على السوق السوداء، ومن ثم تصبح السوق الرسمية هي الملاذ الآمن لتحويلات العاملين في الخارج.

ولكن هذه النتيجة مرهونة بعدة عوامل، منها أن يطمئن أصحاب هذه التحويلات أن السعر الجديد معبر بالفعل عن القيمة الحقيقية لما لديهم من عملات صعبة، وأنهم لن يقعوا ضحية فيما بعد للسياسة النقدية التي تميل إلى إدارة سعر الصرف أكثر من إعمال آليات العرض والطلب.

ففي عام 2017 ارتفع سعر الدولار حتى وصل نحو 18.5 جنيهاً، ولكن بعد فترة وبحجة توفير النقد الأجنبي من مصادر عدة، أبرزها الأموال الساخنة، تم رفع سعر الجنيه أمام الدولار، فوصل إلى 15.60 جنيهًا للدولار، وظل البنك المركزي مصرًّا على هذا النهج، على الرغم من تحذيرات العديد من الخبراء، من أن حماية سعر الصرف ليست سياسة رشيدة.

وأدى تصرف الحكومة بتبني سياسة حماية سعر الصرف إلى استنزاف الاحتياطي النقدي أولًا، ثم الظهور بالعجز الكبير بعد خروج الأموال الساخنة بنحو 18 مليار دولار في إبريل 2022، مما أدى إلى إجبار الحكومة للتخلي عن سياسة حماية سعر الصرف، ولكن هذا التخلي كان جزئيًّا، ليتحرك من 15.6 جنيهاً للدولار إلى 30 جنيهاً للدولار، حتى 5 مارس 2024.

الأمر المهم، هو أن تقوم البنوك بالفعل بتلبية احتياجات الأفراد والمؤسسات من النقد الأجنبي، سواء سحبًا أو إيداعًا، أو بيعًا أو شراءً، وأن يسمح لشركات الصرافة بعملها القانوني بدون مضايقات، وأن تكون جزءًا حقيقيًّا من سوق الصرف.

ما يجب على الحكومة عمله

غير مرة، جاءت تصرفات الحكومة وسياساتها لتجعل ثقة الأفراد والمؤسسات بها في غاية الضعف، نظرًا إلى أن هذه السياسات أتت على مدخراتهم وثرواتهم بأثر سلبي، لذلك على الحكومة أن تبني جسورًا من الثقة مع المجتمع، ليتم القضاء على ظاهرة الدولرة، أو اللجوء إلى الذهب للحفاظ على المدخرات، فهذه المدخرات فضلًا عن أنها تضر بسوق الصرف، هي بعيدة عن الدورة الاقتصادية، ومن ثم يُحرم المجتمع من توظيف هذه المدخرات التي تكون مصدرًا للدفع بنشاط الاستثمار وإيجاد فرص عمل جديدة.

على الجانب الآخر، على الحكومة ألا تزاحم القطاع الخاص في الطلب على النقد الأجنبي، وبخاصة إذا كانت متطلبات الحكومة لا تمثل احتياجًا حقيقيًّا، بما يساعد على وفرة في المعروض من النقد الأجنبي، أو على الأقل وجود طلب متوازن يعبر عن أسعار حقيقية، ويمنع اللجوء إلى السوق السوداء.

أيضًا من المناسب أن تفصح الحكومة بشفافية للمجتمع عن سياساتها فيما يتعلق بإدارة النقد الأجنبي، وحقيقة التزاماتها ومواعيد الوفاء بها، لأن معرفة تلك الالتزامات، للأسف تأتي من خلال مصادر خارجية، وهو ما يزيد من حالة عدم الثقة بين المجتمع والحكومة.

وليس هذا فحسب، بل على الحكومة، أن تنشر البيانات الخاصة بتلك الأموال الخاصة بصفقة مشروع "رأس الحكمة"، وأيضًا الأموال المنتظرة من قرض صندوق النقد الدولي، وغيرها من أموال من اقتراض أو مساعدات من الخارج، تؤدي إلى تدفقات من النقد الأجنبي.

كذلك على الحكومة التوقف خلال الفترة القادمة عن الدخول في شراء صفقات سلاح، أو إطلاق مشروعات مدنية تخص الجيش، من شأنها الاحتياج إلى نقد أجنبي، وهو ما يمثل ضغطًا على سوق الصرف.

الحكومة... هل تعلمت الدرس؟

بعد أن سُحبتْ مبالغ كبيرة من أرصدة الأموال الساخنة الموجودة في مصر، في إبريل 2022، خرج وزير المالية محمد معيط ليصرح، أنهم تعلموا الدرس ولن يعودوا مرة أخرى إلى الأموال الساخنة، وفي ظل تجربة تحويلات العاملين في الخارج، والتي تكررت غير مرة، نحسب أن الجميع قد تعلم الدرس.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

العاملون في الخارج تعلموا الدرس، من أنهم إذا وجدوا انحرافًا في سعر الصرف يضر بمصالحهم، من الجهاز المصري، أو تضييق على التصرف في مدخراتهم، فسوف يكون الملجأ هو السوق السوداء، ولهم فسحة في التعامل مع هذه السوق، سواء في الداخل أو الخارج.

ونحسب أن الحكومة قد تتعلم الدرس، بضرورة أن تضييق الفجوة بين الاحتياجات والمتاح من النقد الأجنبي، فكل ما يمكن تدبيره وإنتاجه محليًّا، فعلى الحكومة ألا تُضيع الفرصة، وأن تعمِد إلى ترشيد نفقاتها من النقد الأجنبي.

في الختام نستطيع القول، إن الأفراد سوف يظلون في حالة انتظار وترقب على الأقل خلال الفترة المقبلة، للاطلاع والمعرفة الحقيقية لمستقبل سعر الصرف، وبناء عليه يتصرفون فيما يصل إليهم من تحويلات من ذويهم في الخارج، أو في أرصدتهم التي احتفظوا بها خلال الفترة الماضية.

وحين يتبين لهم حقيقة الموقف سيكون قرارهم بعودة أموالهم من تحويلات ذويهم في الخارج إلى البنوك، أو الاستمرار في الاحتفاظ بها في بيوتهم، أملًا في أسعار أفضل.

المساهمون