"آنيت" يفتتح "كانّ"... قسوة ومآسٍ ومشاعر متناقضة

"آنيت" يفتتح "كانّ"... قسوة ومآسٍ ومشاعر متناقضة

10 يوليو 2021
ماريون كوتيار خلال المؤتمر الصحافي الخاص بالفيلم (أندرياس رينتز/Getty)
+ الخط -

"احبسوا أنفاسكم حتّى نهاية العرض". يُنبّه ليوس كاركس (1960)، في مُقدّمة فيلمه "آنيت" (2021)، على لسان البطل. يُهيّئ لاختناقٍ وحَبْس أنفاسٍ، وربما لدموع، لمَ لا؟ يُحيل إلى لازمةٍ، تتكرّر في الفيلم، النَفَس كرمزٍ للحياة والموت أيضاً.
قسوةٌ وعتمة وسحر. طفولة مُحطّمة، وقصّة حبّ مأساوية، في "آنيت"، الذي افتتح الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي، المُشارك في المسابقة الرسمية، والمعروض حالياً في الصالات الفرنسية. الفيلم الطويل السادس، والأوّل باللغة الإنكليزية للفرنسيّ كاركس، في 37 عاماً من حياته المهنية، وصفه نقّادٌ بأنّه، من بين أفلامه كلّها، الأقرب إلى الجمهور، والأكثر تحكّماً كذلك.
لعلّ جائزة إخراجٍ تنتظره، كما يتنبأ البعض من الآن. لكنْ، هذا ليس كلّ شيء. هناك من كرهه أيضاً. هذا فيلمٌ يُحَبّ بشدّة، أو يُنفَر منه، أو يحتار المُشاهد بأمره. مشاعر متناقضة عند مُشاهدته. جاذبٌ وساحرٌ ومؤثّر تماماً في مَشَاهد، ومُزعجٌ وخانق كلّياً في أخرى. يأخذُ مُشاهده كلّيا للحظاتٍ، ويدعه خارجاً في أخرى. بعد اختلاط مشاعر وآراء ومواقف، يبقى أثرٌ غريب لا يُمحى، ولا يُفسَّر تماماً.
في لوس أنجليس اليوم، هنري (آدم درايفر)، وآن (ماريون كوتيار)، يُشكّلان ثنائياً مثالياً، تحت الأضواء. ولادة طفلتهما الأولى، آنيت، الغامضة وذات المستقبل المؤلم، تقلب حياتهما. كوميديا موسيقية، مستوحاة من سيناريو للموسيقييّن رون وراسّل مايِل، تتفرّد في سردها الغنائي الشجن، وأجوائها المقلقة. مُحيّرةٌ في رقتها وعنفها، ومُفجعةٌ في تشاؤمها. قصّة حبّ عادية، يُخرجها كاركس ـ بأسلوبه المُجدِّد والمُبالِغ أيضاً ـ من نمطيتها، لتغدو مأساة أسطورية. لغةٌ بصرية مُبتكرة، والموسيقى (الأخوان مايل) أجمل ما في الفيلم.
هنري فنان خشبة (ستاند آب)، يقف وحيداً عليها ليُثير، بقوّة وثقة، جمهوراً عريضاً في لوس أنجليس، مُلقياً نكاتٍ هازئة وفجّة وساخرة.

اختار الكوميديا للتعبير فقط، كما قال هازئاً للجمهور، لأنّه عبرها يُمكنه قول الحقيقة، وإلا فالقتل مصيره. يسخر من كلّ شيء: من "كراهية مُتبادلة بين المسلمين والكاثوليك" و"بين بورنديين وروانديين"؛ ومن صوابية سياسية وأخلاقية (من دون أنْ يُسمّيها) تطمس الحقائق؛ ومن الضحك نفسه، الجدير بالأغبياء والعجائز. علاقته مع آن ـ نجمة الأوبرا ذات الصوت الملائكيّ، والرقيقة والهادئة ـ تكشف هشاشة الحبّ وقوّته، لعنته وبركته، عتمته وضوؤه. علاقة نرجسية، حلّت عليها اللعنة، لتوصل الطرفين إلى الهاوية. العدم، النرجسية، الحبّ، اللعنة، النَفَس، الخوف: مُفردات تتكرّر في الحوارات المغناة، تعكس نرجسية المشاهير (مرايا تنعكس فيها صورة آن)، واللعنة التي تصيبهم (انطفاء الرغبات)، والخوف الذي يشعرون به قبل كلّ تجربة (آن تتلّوى قبل بدء الحفل الأوبرالي).


يسرد "آنيت" هذه المشاعر غنائياً، بعذوبة ومأساوية. معها، يكشف عالم الاستعراض للنجوم والإعلام المُتطفّل، ويسخر من الجمهور أيضاً، ويُسخّف كلّ هذه النجومية، والتظاهرات، وومضات الـ"فلاشات"، ووابل الأسئلة، والجماهير المحتشدة، واستعراض المشاهير، كاشفاً كلّ مستورٍ في حياتهم. يُلمّح إلى قضية "أنا أيضاً (MeToo)"، النسوية الأميركية، لكنّه يُثير ارتباكاً في موقفه منها. يتساءل عن تهجّم واتّهام بالعنف، "مُفاجئين" في توقيتهما، على هنري من نساء: لِمَ ظهرتْ المُتّهِمات الآن بالذات؟ في الوقت نفسه، يؤكّد هذه الصفة لدى بطله مع الزمن، وسوء تصرّفه مع طفلته آنيت. هذه الطفلة التي اختار كارَكس تجسيدها على شكل لعبة متحرّكة كرمز، جاء ثقيلاً ومُزعجاً، للتلاعب بها من قِبل الأبوين.
لكنْ، عبر مَشاهد رقيقة (عملية الولادة)، وأخرى آسرة (غناء آن في الغابة الكثيفة)، ومُقلقة (العاصفة في المركب)، ومُمتعة (غناء بدايات الحبّ)، تُسرَد حكاية عن الحياة والعلاقات الأسرية والزوجية، ويُستحضَر استغلال الطفولة، ونكسات المشاهير، وعالم "الشو بزنس".

مَشاهد مصحوبة بموسيقى قاتمة ومُضيئة، شاعرية ومأساوية، وهبت الفيلم أبعاداً وحرية استثنائية، وأثارت مشاعر تعاطفٍ عميق مع شخصياتٍ مجروحة. فرقة "سباركس"، مؤلِّفة موسيقى "آنيت"، تأسّست عام 1968 في لوس أنجليس، تعزف موسيقى "بوب" و"روك" بقيادة الأخوين رون وراسّل مايل، اللذين صنعا اسماً لهما بفضل أغنية أيقونة، بعنوان "هذه المدينة ليست كبيرة بما يكفي لكلينا" (1974). التقى كارَكس بهما، ويعرف موسيقاهما منذ المُراهقة، وظهر مشهدٌ في فيلمه "هولي موتورز" (2012)، يستمع فيه البطل إلى أغنية لهما.

لذلك، لم يتخيّل كارَكس تصوير "آنيت" في مكانٍ غير لوس أنجليس، رغم التكاليف المالية الضخمة، فكانت معظم المشاهد الخارجية في مدينة فرقة "سباركس"، لا سيما تلك التي يقود فيها هنري درّاجته النارية في شوارعها ليلاً، ونزهات العاشِقَين في الغابة، مُقلقة الأجواء، في جوف الوديان، بينما بنى لمَشاهد أخرى ديكوراتٍ في بلجيكا وألمانيا. أصرّ كارَكس على أنْ يُغني البطلان بصوتيهما، لا سيما في المَشاهد المباشرة التي تُظهرهما وهما يغنّيان.
ماريون كوتيار، الرائعة بحضورها، أقلّ إقناعاً وهي تغنّي منها وهي تمثّل. أما آدم درايفر، الجندي السابق في الـ"مارينز" في العراق، فكسبته السينما. 

المساهمون