أولئك الشهود على المأساة

أولئك الشهود على المأساة

27 ديسمبر 2023
طفلة في رفح (عبد زقوت/ الأناضول)
+ الخط -

في عام 1972، التقط المصور الفيتنامي نِك أوت (1951)، الصورة الشهيرة المعروفة باسم "فتاة النابالم". فتاة فيتنامية تمشي عاريةً وتصرخ من شدة الألم الذي ألحقته بها قنابل النابالم التي أحرقت ظهرها. لعبت هذه الصورة دوراً مهمّاً في تغيير مسار العدوان الأميركي على فيتنام، واقترابه من نهايته. بعد أن كبُرت هذه الفتاة وأصبحت سيدةً تبلغ اليوم الستين عاماً من عمرها، أُقيمت لها جلسات تصوير تُظهر آثار الحروق التي ستلازمها إلى الأبد. وكشاهدة، تحضر دائماً ندوات ومؤتمرات ضيفةً مُتحدّثةً، تكشف عن ذراعيها للحاضرين، كي يروا آثار جرائم ماكينة القتل الأميركية.

في عام 2023، وبعد أكثر من نصف قرن على التقاط تلك الصورة، وبعد الثورة التكنولوجية والفنية المجنونة التي نشهدها، ما زالت كل تلك الصور الآتية من قطاع غزة لا تحرّك ساكناً.

قبل أعوام، أعيد انتشار صورة الفتاة الفيتنامية على "فيسبوك"؛ فحجبتها خوارزميته بحجّة أنّ فيها عُرياً. لكنّ حملةً واسعةً شُنِّت ضد موقع التواصل الاجتماعي، فعدّل خوارزميته في ما يخصّ هذه الصورة تحديداً، وتوقَّف حجبُها، وعادت لتنتشر، ضمن حملة خُصّصت من أجل هذه الصورة.

الخوارزمية نفسها الآن عُدّلت لحجب الصور التي تأتي من قطاع غزة؛ صور لأطفال بعمر تلك الفتاة وأصغر، يهربون من الموت الذي قد يجرفهم، وربما جرف ذويهم. حسابات لناشطين تُعلّق وتُغلق وتصلها إنذارات وتهديدات بإيقافها، فقط لأنّها تنشر هذه الصور. كثير منها يخلو من العنف أو الدماء، لكنه يعرض آثارهما؛ البيوت المهدّمة، الأطفال والعائلات المشرّدة، الحيوانات التي تبحث عن مأوى آمن بعيداً عن القصف، نازحون يبحثون عمّا يشعلونه كي يتدفأوا من برد قارس... إلخ.

وكل هذه الصور، ضمن كل هذا المدّ الإعلامي المستمر منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، لم تُساهم بإيقاف عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. وكل صور التظاهرات التي تجوب مختلف أنحاء العالم، وتلك الفيديوهات التي نرى فيها الشرطة الألمانية تقمع المتظاهرين، لم تضع حدّاً لكذبة الديمقراطية الغربية، ولم تُخضعها لعلامة استفهام.

ما الذي يحتاجه العالم أكثر من الدخول إلى أي موقع وكالة تصوير، ويجري بحثاً فيه عن غزّة؟ بأربعة أحرف فقط (Gaza) سيرى العالم شعباً بأكمله يتعرّض لإبادة جماعية لا تحتاج إلى جهد كي يدينها، ويطالب بوقف إطلاق النار.

إلى جانب الفلسطينيين الذين سنراهم في تلك الصور، من رجال وشيوخ ونساء وأطفال، سنفكّر أيضاً في من يقف وراء الكاميرا ويلتقط الصورة؛ أولئك الشهود على المأساة، وقد يغدون شهداءً في أي لحظة، وإن لم يكونوا هم، فذويهم، كما حصل مع المصور محمد العالول، الذي قضت عائلته في إحدى جولات قصف الاحتلال الإسرائيلي. كيف يبدو شعور مُلتقط تلك الصور؟

هنا لا نتحدث عن أناس مجهولين، فقائمة أسماء هؤلاء المصورين/ الشهود، تطول: محمود الهمص، ومجدي فتحي، ومعتز عزايزة، وبلال خالد، وعلي جاد الله، وعبد زقّوت، وغيرهم كثيرون من مصوّرين وصحافيين يشهدون على المجزرة، ويوثقونها ويرسلون صورهم لوكالات أنباء معظمها صامت أو منحاز، أو يدّعي أنه يريد أن يكون متوزاناً في تغطيته الإعلامية لحرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال على قطاع غزة المحاصرة منذ 17 عاماً.

تحية إلى أولئك المصورين، ويا له من عالم.

المساهمون