سيكستو رودريغيز… ليست أغنية وإنما صرخة

سيكستو رودريغيز… ليست أغنية وإنما صرخة

13 اغسطس 2023
ما إن أمسك غيتاراً حتى "تبدّلت حياته كلياً" (روبرتو ريتشوتي/Getty)
+ الخط -

تعد سيرة رودريغز (1942 ــ 2023) بمثابة فرصة سانحة للتفكّر في معنى الشهرة بالنسبة إلى الفنان؛ لئن مضت حياته كما بدا له دربها عند أعتاب سبعينيات القرن الماضي، حين سجّل ألبومين لم ينجحا، فأُسدِل الستار على مشروع أن يكون موسيقياً محترفاً، لم يكن ثمّ سبب اليوم، يدعو إلى الاحتفاء به إثر رحيله الأسبوع الماضي عن عمر 81 عاماً، كواحد من الأسماء المعتبرة في عالم موسيقى الروك والبلوز.

حتى اسمه الأول سيكستو (أي رقم 6) قد يبدو لصائدي النجوم منقوصَ الأنا، إذ أعطاه له أبواه لمجرّد أن وُلِد كسادس طفل لهما من بين إخوته.

وقد نشأ سيكستو رودريغز في أسرة متواضعة، لأب مكسيكيٍّ يعمل بنّاءً وأم من الأميركيين الأصليين، فقدها وهو لم يزل طفلاً صغيراً. لم يكن ليتسنّى له أن يتعرف إلى عالم الموسيقى، لو لم يعزف أبوه على غيتار فيما هو يردد أغاني شعبية موسيقية. ما إن أمسك غيتاراً حتى "تبدّلت حياته كلياً" فصار لها هدف ومعنى: أن يُصبح موسيقياً.

جذبت الموسيقى رودريغيز، الفتى الصغير، فلم يستمر في الدراسة. ترك المدرسة ليسعى إلى شق طريق له في عالم الفن. رغم فرادة موهبته وعمق توجّهه الموسيقي، أو ربما بسبب كليهما، لم يحقق أي نجاح تجاري. فقد اختار لنفسه نهجاً فنياً إزاء الأغنية الجماهيرية، يجمع النصوص الشعرية بالموسيقى الشعبية، بعيداً كل البعد عن أجواء المدينة الأميركية التي عاش فيها، ديترويت. فشله التجاري في دنيا الصناعة الفنية دفع به إلى هجر الفن. عاش في الظل، بعيداً عن الإعلام عقوداً طويلة، حيث عمل كوالده، بنّاءً. شرع في دراسة الفلسفة، ثم انخرط في النشاط السياسي، من منبر مجلس المدينة الإداري، مكافحاً التمييز العنصري وهمجية شرطة ديترويت في تعاطيها مع الأميركيين الملوّنين. هكذا، بدا لرودريغيز كما لو أنه هجر الفن، أو لعل الفن قد هجره إلى الأبد.

تجاهله الإعلام، ودُفن كلٌّ من الألبومين الوحيدين اللذين أصدرهما سنة 1971 في مقبرة النسيان. إلا أن المستقبل، كان يُعدّ له المفاجآت السارة، ليس على القارة الأميركية، وإنما بعيداً، في جنوب أفريقيا.

لم يع رودريغيز بأن حياة الظل التي قضاها في ديترويت، كانت توازيها نجومية، جعلت اسمه يلامس حدود الأسطورة، وذلك في مدن جنوب أفريقية ككيب تاون وجوهانسبورغ. هناك، لاقت بعض أغانيه المنسية، التي تناولت مفاهيم التحرّر السياسي، صدى واسعاً بين الشباب الجنوب أفريقي الثائر في حينها على غياب العدالة في ظل نظام التمييز العنصري الحاكم.

أغنيته المعنونة "تلك ليست بأغنية، وإنما صرخة" أو المعروفة أيضاً بعنوان The Establishment Blues، المُدرجة ضمن أحد ألبومه Cold Fact أصبحت نشيد الشباب الجنوب أفريقي الثائر. على الأخص، واحد من الأبيات المفتاحية فيها: "النظام سوف يسقط قريباً".

من منظور موسيقي، تتناهى الأغنية بسيطة التأليف. يُسمع ضرب ثنائي موزون على الغيتار الأكوستي بأسلوب البلوز. يتميز إيقاعه بالسرعة والحيوية، أما الشكل فمقتضب يحوي مذهب Verse واحد وكوبليه Chorus يُقتطع عند النهاية، مشكلاً عنصر مفاجأة، محدثاً خللاً جذّاباً في بنية الأغنية.

من هنا، تعد The Establishment Bleus أنموذجاً لكتابة الأغنية الهادفة، أو السياسية. فالوظيفة عادة ما تسبق الكيفية، ويبقى الشكل خادماً وفيّاً للمضمون، حتى أنه قد يغور ويتضاءل كلياً، فلا يُبتغى منه سوى بث الحمية والحماسة بالمستمعين، بل ويُفضّل في بعض الأحيان، أن يفتقر إلى عناصر التركيب والتعقيد، فيبقى سهل الحفظ، سريع التداول وفي متناول الآذان.

النص هو المحرّك الأساس للأغنية، يبث مضامين ثورية باسترسال مسهب، ينتقد من جهة سياسات مؤسسة السلطة المطبقة على الأرض، من عنف وتمييز واستغلال. إلا أنه من جهة أخرى، يُسلّط الضوء على الخطاب الإيديولوجي المضلل الذي تتبناه مؤسسة السلطة بغرض الإلهاء والتعتيم على منهجها السياسي.

كالشكل، فإن أداء رودريغيز يصب في هدف واحد، ألا وهو إيصال المضمون السياسي. هكذا، تغيب عن غنائه، أنا الفنان، ليغدو الصوت كمُكبّر صوت بيد قائد تظاهرة أو مسيرة، ينشد بالجموع، يحضّهم على البذل والمقاومة. مع ذلك، يتمتع صوت رودريغيز بسلامة النغمة وتماسك المغنى وجاذبية طبيعية، تزيد من قدرته على التأثير بالمستمع.

بعد مضي عقدين من الزمان، ونجاح ثورة السود في جنوب أفريقيا لأجل إسقاط نظام الفصل العنصري، بدأت بين أوساط الشباب مساعٍ في البحث عن ذلك الأميركي المكسيكي المغمور الذي ألهم بشعره وصوته وغيتاره سنين نضالهم، مما أدى أواخر التسعينيات إلى اكتشاف رودريغيز وإعادة بعثه من على خشبة المسرح.

عام 1989 وقد قارب الستين من عمره، زار مدن جنوب أفريقيا في جولة فنية تاريخية. غنّى أمام الآلاف من معجبين لم يعلم بوجودهم قط، ممن كبروا على صوته وأغانيه، وهاهم اليوم يرددونها من خلفه. هو الذي لم يختر سلوك طريق الشهرة، وإنما التزم طريقاً مغايراً، يُرضي ذوقه الموسيقي الخاص، ويخدم مشروعه السياسي.

شاءت الأقدار فيما بعد أن يُسلّط عليه الضوء. حتى الاحتفاء به اليوم، بُعيد وفاته، يستدعيه الاهتمام المتزايد بالفن السياسي، إثر تنفّذ اليسار التقدمي ضمن مؤسسات الولايات المتحدة، وتزامناً مع نشوب حوادث في الولايات المتحدة ودول غربية، تُعيد الزخم لمسألة همجية الشرطة وتمييزها ضد أفراد وجماعات من دون غيرهم ضمن المجتمع الواحد. إن دلّ ذلك على شيء، إنما يدل على أن كلّاً من الاشتغال بالفن والتمتع بالشهرة يبقيان مسارين متوازيين، وإن التقيا أحياناً.

المساهمون