شيءٌ من يومياتٍ بيروتية: أيّ دفن مُؤجَّل هذا؟

شيءٌ من يومياتٍ بيروتية: أيّ دفن مُؤجَّل هذا؟

21 يونيو 2021
بيروت 2021: أي صمتٍ هذا؟ أي فراغ؟ (حسام شبارو/ الأناضول)
+ الخط -

العيش اليومي في بيروت مُصابٌ بأعطابٍ غير مُتناهية. كلّ شيءٍ ينهار. أبسط ركائز العيش، من مأكل ومشرب وطبابة وأمن اجتماعي، تختفي بسرعة مخيفة. الأعطال، في أبرز الحاجات (كهرباء، مياه، إنترنت، اتصالات هاتفية خلوية)، تُنبئ بمصيرٍ قاتمٍ، تُرسَم ملامح منه بكثرة في كلّ لحظة. يتحوّل العيش اليومي إلى جحيمٍ، كنبوءة رئيس البلد ذات مرة غير بعيدة. الجحيم يتحرّر من صورته المتخيّلة، ويتّخذ شكلاً حيّاً، يُشبه أولئك الموتى الأحياء، الذين ينهشون أجساد أحياءٍ يُصبحون موتى.

أسوأ الحاصل، صمتُ كثيرين يرتضون لأنفسهم خراباً كهذا. كلّ كلامٍ عن عجز الغالبية عن حراكٍ، بالقول أو بالفعل، باطلٌ. كلّ تبرير يقول بوفرة وجعٍ وهزائم ومآزق في تلك الغالبية، يمنعها من حراكٍ، باطلٌ. كلّ حراك، إنْ يبقَ حراكاً أو يُصبح انتفاضة أو يتحوّل إلى ثورة، ينبثق من وجع وهزائم ومآزق، تُصيب العصب الأساسيّ لعيشٍ آمنٍ. الصمت اللبناني قاتلٌ، رغم أنّ العصب الأساسي نفسه مُصابٌ بأهوالٍ شتّى. عنف الصمت أقسى من فسادٍ ونهبٍ وإجرامٍ متنوّع الأشكال، تمارسه سلطة على بلدٍ وناسه. لا مُبرّرَ واحداً لهذا الصمت، فأسباب الغضب والانتفاض كثيرةٌ، تُختزَل بواحدٍ: الإهانة. هناك سلطة تُهين الناس، والناس يقبلونها بصمتٍ، وبعضٌ يُبرِّر الصمت بوجع وهزائم ومآزق.

هذه دائرةٌ مُميتة. دائرةٌ تضيق شيئاً فشيئاً على كلِّ ساكنٍ فيها، فتغتاله ببطءٍ، يحتمله كثيرون، وهذا مرضٌ. دائرةٌ تخنقُ، رويداً أو سريعاً، كلّ باقٍ فيها، استسلاماً، أو عجزاً عن المغادرة، أو رغبةً في تعذيب الذات، أو تمكّناً من اكتفاءٍ ذاتيّ، وإنْ يكن مؤقّتاً. دائرةٌ تُجرِّد هؤلاء من كلّ إحساسٍ أو انفعالٍ، وتمنع عنهم كلّ قولٍ أو بوحٍ، مع أنّ أفعالها بهم سببٌ أبرزٌ لإنعاش إحساسٍ، ولإحياء انفعالٍ، ولإطلاق قول، ولإعلان بوح. دائرةٌ تمنح الخرابَ مُعجزة ابتكاراتٍ، تولِّد مزيداً من خرابٍ وصمتٍ. دائرةٌ يفوح منها عفنٌ، فينتشي بها كلّ ساكنٍ فيها.

الصُّور غير سينمائية. الواقع أعنف وأقسى وأبشع وأسوأ. هناك ميلٌ إلى قناعةٍ، تقول إنّ عدسة الكاميرا السينمائية أضيق من أنْ تلتقط وقائع كهذه، وأعجز من أنْ تُفبرك حياةً كهذه. الوحوش متفلّتةٌ. التنانين تتنزّه في أزقّة ونفوسٍ. كثيرون غير مُبالين، وغالبيتهم تُغذّي الوحوش والتنانين، بصمتها وانكفائها واستسلامها، وباكتفاءاتها الذاتية، والاكتفاء الذاتيّ مرضٌ، لا أسلوب حياة. عبقرية المتخيّل غير مُتمكّنة من إدراك الحاصل، فكيف بابتكار شكلٍ له، أو صدى؟ الصُّور غير السينمائية أنجع من كلّ مُتخيّل في قول واقعٍ غير مسبوق، وفي فضح معروفٍ.

 

 

الدائرة تضغط على كلِّ كتابةٍ، كضغطها على كلّ سعي إلى حياةٍ وعيشٍ. أيّ لذّة تصنعها مُشاهدةٌ، عبر شاشة صغيرة أو في صالة كبيرة؟ أيّ مُتعةٍ تنشأ من كتابةٍ عن فيلمٍ، أو عن مسألةٍ يُصوّرها فيلمٌ، أو يناقشها سينمائيّ، أو تتناولها ممثلةٌ؟ أيّ تراكمٍ يحصّن الكتابة من نزوعٍ كهذا إلى هاوية أخيرة، أو إلى فخّ أبديّ؟ المهنة تريد مشاهدةً وكتابةً ونقاشاً. لكنْ: أيّ مُشاهدة وأيّ كتابةٍ وأيّ نقاش يصلح للمهنة، في دائرة الموت تلك؟ التعب كبير. الشاشة، رغم أملٍ قليل وفرحٍ أقلّ، تنطفئ مع كلّ حاجةٍ إلى مُشاهدةٍ، لممارسة المهنة. صالات لبنانية تفتح أبوابها، وشاشاتها تعرض أفلاماً. هذا مُنتظرٌ منذ وقتٍ، لكنّ ثقل الخراب يحول دون وثوقٍ بقدرة الصالات على إثارة بهجةٍ، ودون فرحٍ بتحقّق رغبةٍ. مجلات أجنبية في مكتباتٍ بيروتية تريد قارئاً، لكنّ القرّاء قلائل في زمن راحةٍ مفقودة، فكيف في زمن اضطرابٍ وحُطام كهذا؟ كتبٌ عربية، مطبوعة محلّياً، تُثير بعض عناوينها حماسة اقتنائها، لكنّ شيئاً خفيّاً في ذاتٍ مُرهَقة ينقضّ على الحماسة، فيُنهيها.

بيروت تخنق. ناس المدينة يتوتّرون ويوتّرون. بعض هؤلاء يكترث بمسرحٍ أو صالةٍ أو مكتبةٍ أو مقهى أو حانة أو مطعمٍ أو ملهى ليلي، لكنّه أكثر توتّراً من آخرين، وأقدر على إثارة توتّر. كثيرون يبحثون عن مأكلٍ ودواء، وكثيرون يجلسون ساعاتٍ في مقهى أو حانة أو مطعمٍ أو ملهى ليليّ. منطقة "مار مخايل ـ الجميزة"، المُصابة بانفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، تسهر على صخبِ روّاد حانات ومطاعم وملاهٍ ليلية، كأنْ لا أزمة ولا خراب ولا موت. تبرير هذا كامنٌ في "رغبة الحياة"، أو في "تعاطفٍ" مع خراب المنطقة، وحاجتها إلى النهوض. شارع الحمرا مُغلق، وبعض المفتوح فيه يقتات فتاتاً لقليلٍ من نبضٍ أخير. البلد مُعطّل. صوتُ الصمت أقسى وأبشع من ضجيج الفساد والنهب والإجرام. قسوة الفراغ غير قابلة للوصف.

أيّ فيلمٍ يؤرِّخ موتَ أحياءٍ وهم صامتون؟ أيّ عدسةٍ تلتقط أشباح خيالاتٍ لأناسٍ يظنّون أنّهم أحياء؟ أيّ دفنٍ مؤجّل هذا؟

المساهمون