عن الوعي الأول بفلسطين: الأدب والغناء ثم السينما بأنواعها

عن الوعي الأول بفلسطين: الأدب والغناء ثم السينما بأنواعها

20 أكتوبر 2023
من فيلم "الهدية" لفرح نابلسي (نتفليكس)
+ الخط -

لسنوات طويلة، لم تُسهم السينما الفلسطينية، من بعيد أو قريب، في اهتمامي بفلسطين، أو إدراكي وتشكيل وعيي المرتبط بالقضية الفلسطينية، على تطوّراتها وتعقيداتها. كما لم يكن لأفلامٍ كثيرة شاهدتها لاحقاً، وثائقية أو روائية، رغم قوّتها وفنّيتها، التأثير الصاعق والمُزلزل نفسه، الذي خبرته في سنوات مراهقتي ومطلع شبابي، عقب مُشاهداتي الأولى لما كان يحدث في فلسطين.

فلسطين والقضية الفلسطينية، إسرائيل والحروب والعدوان والمُقاومة والتهجير، ومُفردات أخرى كثيرة، كانت تتردّد باستمرار في نَشأتي، في جنبات منزلنا، بين الأهل والأقارب، وأصدقاء الأهل والأقارب، وفي شوارع مدينتي، السويس. كما شكّلت آثار الدمار في بناياتها، ودبابات وآليات إسرائيلية متروكة عمداً، وبتفاخر، في شوارع المدينة، لسنوات طويلة، ذاكرتي البصرية، وذكريات الطفولة والمراهقة والشباب. كما أنّ هناك مَشاهد وتواريخ ولحظات وذكريات كثيرة ربطت ذاكرتي، وشكّلت أفكاري ومشاعري، كصبي ومُراهق، وإنْ على نحو بسيط أو غائم، في مكانٍ بعيد، رغم قربه، يُدعى فلسطين.

وعي أول غير سينمائي

مُقارنة بأبناء جيلي، أعتقد أنّي كنتُ محظوظاً جداً، إذْ لم يكن لي دخلٌ في أنّي نشأت في عائلة، وبين أصدقاء ومعارف، على صلة وثيقة وانخراط كبير في المُقاومة والحرب. كانوا على قدر من الوعي والثقافة والاحتكاك بأسماء فاعلة ومؤثّرة ومشهورة، كعبد الرحمن الأبنودي، تردّدوا باستمرار على مدينتي، وكانوا على صلة وثيقة بأهلي.

كان الارتباط بفلسطين أدبياً خالصاً، خاصة بعد الاطلاع على نوع شعري مُغاير، شعر المُقاومة، وإدراك أنّ هناك قصائد وأزجالاً وأغاني مُقاوِمة، وشعراء ومُطربين مُقاومين.

من هنا، بدأت العلاقة الوثيقة فعلاً بالقضية الفلسطينية، بوعي قِرائيّ وسَمَاعي أساساً، لا بصري أو سينمائي. للأمر وجاهته بالتأكيد. فالحضور الفلسطيني الأدبي كان الأقوى والأعمق والأنضج، والأكبر مساحة، مقارنة بفقر أو انعدام المُتاح وقتها على شاشات التلفزيون، أو في الأفلام المصرية والعربية. يضاف إلى هذا، حقيقة أنّه، بين نهاية ثمانينيات القرن الماضي ومنتصف تسعينياته، لم يكن هناك ما يُسمّى السينما الفلسطينية، ولم تكن أسماء أبرز مُخرجيها تكرّست بعد. لذا، فإنّ أسماء كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم كانت الأشهر، والأكثر نجومية وحضوراً، بالنسبة إليّ، رغم أنّ أصوات هؤلاء كانت تُسمع نادراً، بفضل شريط كاسيت منسوخ، أو أثير برنامج دولي عابر في الراديو.

قبل عقدين، لم تكن للسينما الفلسطينية، المُستقلّة أو الفنية أو غيرهما، مساحة في اهتمامي. فعلياً، لم تكن هناك أسماء مُكرّسة، ولا وجود راسخ للسينما الفلسطينية بشكلها الراهن. حينها، كانت الندوات الثقافية والحفلات الغنائية والأمسيات والفعاليات المُرتبطة بالفرق الفلسطينية والتراثية، في "معرض القاهرة للكتاب" أو في غيره، خاصة لدرويش والقاسم ومريد البرغوثي وغيرهم، تستقطب أعداداً ضخمة، تفوق ما تستوعبه قاعات السينما حالياً.

تسجيلات الشيخ إمام، وأغنيات مارسيل خليفة، وأعمال أدباء فلسطين المُكرّسين، كإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني مثلاً، جعلتهم حرفياً نجوماً في سمائنا وحياتنا، أكثر من أبطال السينما العربية، ورفعتهم إلى مصاف نجوم السينما العالمية. فهم أسّسوا وصاغوا وربطوا وعيي، وربما وعي غيري من أبناء جيلي، بالقضية، واسم فلسطين، والصراع، والانتفاضة.

لاحقاً، تطوّر الأمر بنحوٍ غير مُتوقّع، وبطريقة فريدة، من المقروء والمسموع إلى المرئي. كانت أسرتي من أوائل الذين اقتنوا جهاز الـ"فيديو كاسيت"، وحدث أنْ وصل إلى بيتنا، ذات يوم، 11 شريط فيديو، أو ربما أكثر، كدفعةٍ أولى، من إعداد وإنتاج وتوزيع "مؤسّسة الشارقة للإنتاج الفني" في الإمارات العربية المتحدة، مُرسلة من صديق والدي، الإعلامي المصري المعروف محمد عروق، المدير السابق لـ"إذاعة صوت العرب".

سينما ودراما
التحديثات الحية

كانت الشرائط الفريدة مُنفّذة بإشرافه في "استوديوهات عجمان" في الشارقة، منها مثلاً: مُختارات شعرية نادرة ألقتها الشاعرة سعاد الصباح، وأخرى لنزار قباني. قصائد ذات طابع سياسي عُروبي وناصري أساساً. كان الأهم والمُفيد جداً بين هذه الشرائط أجزاء عن حرب الاستنزاف، و"حرب أكتوبر" (1973)، تحتوي على مشاهد ولقطات وذكريات ولقاءات مع القادة المشاركين فيها، ومع غيرهم، ومنها: حرب السويس، ولقاءات مع الفدائيين والأبطال الأحياء، الذين كنا نرى أغلبهم في شوارع السويس، ونعرفهم جيداً.

اكتشافات أولى

أما المُفاجئ والمُذهل بالنسبة إلي، فكان وثائقيات وريبورتاجات عن القضية الفلسطينية، بدءاً من نكبة 1948، ورصد تاريخ الصراع، حتى اندلاع الانتفاضة الثانية. كلّها كانت تحتوي على لقطات ومقاطع تسجيلية وأرشيفية فريدة ونادرة، مأخوذة من أرشيفات العالم، أو مُصوّرة بكاميرات احترافية شخصية.

كانت الشرائط الأكثر سخونة والتهاباً وصدمة، ولا تزال مَشاهدها صامدة وحيّة في ذاكرتي، تلك المصنوعة عن الانتفاضة الفلسطينية تحديداً. على غلاف أحدها، قرأت للمرة الأولى عنوان "الحرب العربية الإسرائيلية السابعة"، واندهشت: "السابعة"؟ فيها، رأيتُ شوارع القدس وحيفا والناصرة والبيرة لأول مرّة من الداخل، بشكل حقيقي وواقعي، وليس كما في نشرات الأخبار. عاينتُ وجوه أطفال الحجارة عن قرب. لم تكن الوجوه المحفوظة نفسها، وكانت محفوظة لفرط تكرارها في نشرات أخبارنا.

كانت أول مرة أسمع وأرى وأفهم بعمق معنى فلسطين وصراع وقضية، وطبعاً كلمة انتفاضة، وأننا، حينها، بصدد أو في الانتفاضة الثانية؛ وأنّ هناك نبوءة بانتفاضة ثالثة مقبلة مستقبلاً. أرعبتني مُشاهدة الأطفال والشباب والرجال والنساء يُنكَّل بهم.

البطش والعنف والتعذيب، وتكسير عظام الجميع، وقتلهم، كانت أموراً مُتكرّرة في الشرائط، بلقطاتٍ وزوايا مُتعدّدة، وبتصوير مُباشر أو خِلسة. ذُهلت أمام عنف العصابات الصهيونية وإجرامها وتبجّحها، والإمعان في القسوة والتنكيل والانتقام، والتلذّذ بهذا الكَمّ من اللاإنسانية التي لا تخطر ببال، حتّى في التعامل مع الموتى والجثث.

أغلب هذه الشرائط، الوثائقية ريبورتاجية الطابع، كانت مصحوبة بتعليقات وشروح وتوضيحات بأصوات رخيمة، وذات لكنة عربية جزلة، أو بأشعار محمود درويش وغيره، والأبيات تُتلى بأصوات شعراء وفنانين مصريين وعرب، والأغاني لمن تعرّفت عليهم لاحقاً: مارسيل خليفة وجوليا بطرس وآخرين.

كان تأثير ما شاهدته، وأعدت مشاهدته مراراً، بالغ البشاعة والعمق في نَفْسي، إلى درجةٍ صاعقة ومزلزلة، ودائمة، ولا يقلّ أثرها عن أعتى الوثائقيات والأفلام الروائية التي شاهدتها لاحقاً.

الأكثر التصاقاً بالذاكرة، وحفراً للصراع وتلخيصاً له في داخلي، بل أوجز لي قضية فلسطين والعرب، حاضراً ومستقبلا، قصيدة "الموت على الأسفلت"، بإلقاء حيّ للأبنودي على مسرح في إمارة الشارقة. كانت القصيدة المُلقاة مصحوبة بصُوَر ولقطات ومَشاهد مؤلمة ومؤثّرة، وبرسومات ناجي العلي، وكانت المرة الأولى التي أشاهدها فيها لأنّها كانت ممنوعة في مصر.

لا أذكر عدد الوثائقيات التي شاهدتها. مع الأسف الشديد، لا أذكر عناوينها، أو أسماء صُنّاعها، ولا أدري أين مصيرها، إنْ كانت محفوظة ومُؤرشفة، أم لا. طبعاً، لا أعرف لماذا لم تُذع أبداً، ولو مرة واحدة، على أي فضائية، أو أنّها غير موجودة على "يوتيوب" وغيره في شبكة الإنترنت، بما في ذلك تسجيل قصيدة الأبنودي.

كان يُمكن جداً أنْ يكون مصيري كأغلب أبناء جيلي، وغيرهم من الأجيال اللاحقة، التي لا تزال تعتقد أنّ الفلسطينيين فَرّطوا بأرضهم أو باعوها، وأنّهم يُفضّلون حياة المنافي الأوروبية والعربية، أو تكوّنت أفكاري وآرائي ومشاعري على نحو حماسي وانفعالي وآني فقط، يتأثر أو ينتفض أو يثور لمشهد أو لقطة تختزل الأمر في ارتداء كوفية فلسطينية، أو صورة الأقصى المعلّقة على جدار منزل، أو مسيرة تهتف بالموت لإسرائيل، أو حرق علم إسرائيل أو أميركا، وترديد أغنية "الحلم العربي". 

كلّها لم تكن إلاّ للتنفيس عن المكبوت فقط، لا سيما في أفلام السينما المصرية، مع عدم انتشار الفضائيات، ورقابة القنوات التلفزيونية، وانشغال السينما المصرية والعربية بهموم وقضايا أخرى، وعدم توفر الإنترنت. ولولا الكمبيوترات الشخصية، لم تكن هناك وسيلة لمشاهدات سينمائية فنية من أي نوع، ناهيك بأفلام فلسطينية.

أذكر جيداً أنّي سمعتُ وقرأتُ كثيراً عن "هانا ك." (1983) لكوستا ـ غافراس؛ لكنّ العثور على نسخة منه، ولو كشريط VHS أو أقراص مُدمجة، كالعثور على العنقاء. لا شكّ أنّ دخول الإنترنت لحظة فارقة بالنسبة إلي، لتحميل المزيد من المسموع والمكتوب، وللعثور على كنوز السينما، والقراءة النقدية، والمُتابعة الصحافية اللحظية لتغطيات المهرجانات، والأفلام الحديثة.

أول ما لفت انتباهي إلى ما له علاقة بسينما مرتبطة بفلسطين، الضجّة التي أثارها "زيارة الفرقة الموسيقية" (2007) لإيرَنْ كوليرين، وكيف أقام الدنيا ولم يقعدها آنذاك، لأسباب غير فنية أساساً. تدريجياً، بدأت تتوفّر أعمال عن فلسطين على الإنترنت، خاصة الوثائقية.

لكنّ الأفلام الروائية ظلّت نادرة جداً. "المطلوبات الـ18" (2014) لعامر الشوملي أول ما لفت انتباهي فنياً، واستحق عناء البحث والعثور عليه بعد سنوات.

أفلامٌ وتجارب

بدأت معالم السينما الفلسطينية تتبلور وتتشكّل، مع اختلاف الموضوعات والأنماط والأساليب والمُعالجات البعيدة عن المُعتاد وعن النمطي، وفي الوقت نفسه المستوى الاحترافي في الصناعة السينمائية، والتمكّن منها. هكذا أدركتُ جدارتها بالترشّح للمهرجانات، والفوز بالجوائز، والنيل المُستحَقّ للإطراء والمديح، وأنها تستحق المتابعة فعلاً، ليس لسبب عاطفيّ فقط، بل لأسبابٍ فنية وجمالية وفكرية أيضاً.

مُشاهدتي أفلاماً فلسطينية، وإلمامي بإنتاجاتها، الوثائقية والقصيرة والروائية، في سنوات، لم يكن مُمكناً تداركها لولا القرصنة، للأسف الشديد.

الآن، أجد غريباً جداً أنّ أغلب هذه المُشاهدات لم تكن مؤثّرة بقدر كبير، أو بدرجة صاعقة أو صادمة، مُقارنة بما شاهدته في شرائط الـ"فيديو كاسيت"، في سنوات المُراهقة والنضج. ربما يُعزى الأمر إلى فرط تشبّعي بما عاينته من مشاهد قاسية انحفرت فيّ.

إلا أنّ ما شاهدته من أفلامٍ حديثة، خاصة الروائي منها، أضاف إليّ الجديد، من دون شك، وعَمَّق فيّ الكثير، ورسّخه، بل ساهم في سَدّ النقص، وإكمال فجوات كثيرة، مُرتبطة بالحياة اليومية للإنسان الفلسطيني العادي، أساساً، ومعاناته الحياتية، بمستوياتها المختلفة، خاصة الاجتماعية والاقتصادية، وتحديداً بعد ما طرأ عليها من جديد، أي بناء الجدار العازل، وجرى تناوله بعمقٍ في حبكات مختلفة، بيّنت وأكّدت مدى المعاناة الجحيمية التي يعيشها الفلسطيني المعزول في أرضه. أبرزها، بالنسبة إلي، الوثائقي "5 كاميرات محطّمة" (2011)، لعماد برناط وغوي دايْدي. لا أنكر استمتاعي الشديد بأفلام إيليا سليمان وميشيل خليفي وهاني أبو أسعد وغيرهم، وحديثاً أفلام مؤيّد عليان وسامح زعبي وبسام جرباوي ومها الحاج وطرزان وعرب ناصر، وغيرهم.

إلاّ أنّ الأبقى والأرسخ في الذاكرة، أفلام أو مَشاهد محدّدة من أفلام إيليا سليمان، لأسباب جمالية وفنية، تعود إلى غرابة الأسلوب، ودمجه الفكاهة بالمأساة، وسمات جديدة أخرى في السينما العربية.

المُثير أنّ الروائي القصير "الهدية" (2020) لفرح نابلسي، رغم بساطته الشديدة، كان خير تصوير وتكثيف للمأساة الفلسطينية، ولعمق مُعاناة الفلسطينيين، وشعورهم بالحصار والذلّ والمهانة، وعبثية عبور بوابات مُدجّجة بالحراس، في بلدهم.

الآن، بعد مرور سنوات وتوفّر الإنترنت والانتشار السرطاني للفضائيات، أجدني أفكر في أبناء الأجيال السابقة والحالية والمقبلة، وأتساءل: كيف وأين ومتى سيشاهدون أفلاماً فلسطينية، قديمة وحديثة ومُستقبلية؟ كيف سيتشكّل ضميرهم، وتتربّى ذائقتهم، ويتجاوز/يتخطى وعيهم مُجرّد التفاعل المشحون مع مشاهد انفعالية في أفلامٍ عابرة، تجارية أو غير تجارية؟ كيف وأين؟

وأمثالي، من نقّاد العالم العربي على اتّساعه، لو لم يتسنّ لهم حضور المهرجانات، لما استطاعوا مُشاهدة الأفلام الفلسطينية فور عرضها. من ليس باستطاعته، عليه الانتظار حتى تتوفّر أشرطة مُقرصنة، أو أي طريقة أخرى.

متى ستُعرض الأفلام الفلسطينية وغيرها في دور العرض، أو على فضائيّاتنا، بشكل طبيعي، أو كنوع من أنواع الدعم لصنّاعها، وللقضية؟ أم أنّ ما يحدث تجهيلٌ مُتعمّدٌ بالسينما والمسألة الفلسطينية؟

المساهمون