"ديكتاتورية المستنيرين": علماء ما فوق الكهنة

"ديكتاتورية المستنيرين": علماء ما فوق الكهنة

15 يونيو 2020
"في غبار هذا الكون (شمس سوداء)"، أرتور فيرتسمانيس
+ الخط -

مع ظهور الشركات بوصفها راعياً أساسياً للمعرفة ومنجزاتها بدت وكأنها تجسّد أدبيات يوتوبية جعلت من العلم بلسماً لكل جراح العالم، غير أن البشرية استفاقت بالتدريج على مآس لعب العلم فيها أشنع الأدوار، مثل الإبادات باعتماد أسلحة طوّرها العلم لهذا الغرض، واستلاب مجتمعات بأسرها عبر الاستهلاك وأساليب تقسيم العمل وإخضاعها لمنظومات رقابية لصيقة.

أفكار عديدة في هذا السياق، يناقشها كتاب "ديكتاتورية المستنيرين: روح الإنسانوية العابرة وأهدافها" للباحثة أولغا تشيتفيريكوفا الذي صدرت نسخته العربية حديثاً عن "الآن ناشرون وموزعون" بترجمة باسم الزعبي.

تنطلق المؤلّفة في تقديمها من المؤتمر العالمي الثاني "مستقبل العالم 2045" الذي عُقد في نيويورك عام 2013، باعتباره مثالاً صارخاً لما تهدف إليه الاختراعات الحديثة الموجّهة نحو "إحداث تغييرات جذرية على الإنسان، وعالمه الروحي، وحتى على مظهره وجسده". وفي مقدّمته، يشير المترجم إلى تحويل الفكر والعلم إلى أيديولوجية تسيطر على الأفراد والشعوب، وكأن الأمر يتعلق بـ"دين جديد" تدعو إليه جماعات فكرية نشأت في أحضان الرأسمالية.

تتخذ تشيتفيريكوفا زاوية تحليل انطلاقاً من موقف يشاركها فيه كثير من النخب والعامة حول التطوّر العلمي من منظور أخلاقي وهو ما يفضي إلى تجريم العديد من استخداماته، ومنه ما جرت الإشارة إليه خلال المؤتمر باستبدال أجساد البشر بحوامل غير بيولوجية، توضع في رؤوسها أدمغة بشرية، وبهذه الطريقة يصبح تطوّر البشرية موجّهاً على طريق الخلود.

تقدّم الباحثة قراءات في تاريخ العلم بالعودة إلى تصوّراته في الفلسفات القديمة بدءاً من الغنوصية التي قابلت بين عالميْ الظلمة والنور، لتنتقل إلى مفهوم العلماء السحرة الذي انبثق عن الإيمان بأن المجتمع يمكنه الوصول إلى كمال أهل الجنة بالبحث عن "المعرفة العليا" التي يصبح من خلالها العلماء فوق الكهنة.

وتقارب تشيتفيريكوفا محطّات أساسية في تطوّر العلوم التي سعت في مجملها إلى تحويل وعي البشرية إلى "وعي تكنوتروني" يتّسم بالسحر والغموض، قادر على تقبّل حكم الإنسان الخارق في ظروف كارثية من صنع الإنسان نفسه، اشتغلت عليها مراكز الدراسات منذ زمن بعيد من أجل إعادة بناء الإنسان روحياً.

في السياق الفكري والثقافي لهذه الممارسة للعلوم، تتناول تشيتفيريكوفا انعكاس ذلك في المنظّمات الدولية، وعلى رأسها "يونسكو" التي أُنشئت، بحسبها لجعل التسامح والتعدّدية أدوات بيد "المستنيرين" لوضع معايير موحّدة للبشرية جمعاء واستبدال "أيدولوجية المواجهة" بـ"ثقافة السلام". تصل تشيتفيريكوفا إلى مفهوم "الإنسانوية العابرة" التي تؤمن به تيارات تكنوقراطية وبيئية وتحريرية وأناركية توحّدها الرغبة في "التغلّب على الطبيعة البشرية لتحقيق حالة جديدة نوعياً، جسداً جديداً وعقلاً جديداً، لتطوير بدائل متنوّعة من أشكال "التطوّر" أبرزها الإنسان المعدلّ وراثياً.

المساهمون