التنشئة المترهلة تشد تونس إلى حلقة الفوضى

التنشئة المترهلة تشد تونس إلى حلقة الفوضى

11 ابريل 2016
ضعف النظام التربوي ينعكس سلباً اقتصادياً واجتماعياً (Getty)
+ الخط -
"حقوق الطفل على أبويه، وعلى الدولة ضمان الكرامة والصحة والرعاية والتربية والتعليم، على الدولة توفير جميع أنواع الحماية لكل الأطفال دون تمييز ووفق المصالح الفضلى للطفل"، هذا ما جاء في الدستور التونسي.
سعى المشرّع للتأكيد على حقوق الطفل، لكن واقع الشارع والإحصاءات الصادرة عن المؤسسات الإحصائية للدولة ومنظمات المجتمع المدني، تعكس تبايناً صارخاً بين النصوص القانونية والشعارات الكبرى من جهة، وممارسات مؤسسات الدولة على أرض الواقع من جهة أخرى. إذ يظهر أن الشريحة العمرية دون 15 عاماً، والتي تمثل اليوم في تونس بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء ربع تعداد السكان تقريباً، أنها ليست من أوليات السياسيين. فبينما تعج وسائل الإعلام بدعوات الاستثمار الخارجي والمحلي، ويتسابق الوزراء والمسؤولون لتقديم الوعود والتعهدات في مختلف القطاعات الاقتصادية، يغيب تماماً أي صوت ينبه لضرورة الاستثمار في مستقبل البلاد الحقيقي وقيمته الثابتة.
"لا يمكن توقع مستقبل أفضل من حاضرنا في ظل سياسة الارتجال والترقيع" كما يرى الباحث الاقتصادي خليل البرقي، ويقول: "إن الدولة تتعامل مع قضية استثمار الطفل التونسي كمسألة ثانوية تطغى عليها "المناسباتية" والحسابات السياسية، فالحكومات المتتالية لم تكن تملك رؤية متكاملة أو طويلة الأمد لمختلف الأزمات التي تعاني منها البلاد، ومنها قضية وضعية الطفل الاقتصادية والاجتماعية، لتنحصر تدخلاتها على خطوات ترقيعية وحلول وقتية".
هذا العمى الاستراتيجي والاستهتار بضرورة إعداد الجيل المقبل والمراهنة عليه تؤدي كما يؤكد البرقي إلى حصول ارتدادات اقتصادية تزيد من تأزيم الوضع المتدهور، ولعل أبرزها هي تواصل تخريج مئات الآلاف من اليد العاملة النشيطة غير القادرة على التكيف مع متطلبات السوق أو ذات مستوى تكوين متدن. وهي معضلة حقيقية في بلد يتجاوز عدد المعطلين فيه 700 ألف شاب وشابة. ويضيف البرقي: "أن تواصل تخريج اليد العاملة المعطلة، ينعكس بدوره على نسب الفقر، ومعدلات الإنتاج، وكتل الأجور، وانكماش الاستهلاك وعلى الاستقرار السياسي والاقتصادي. إذ يرتبط استثمار الدولة في تنشئة الأطفال بالمستقبل الاقتصادي للبلاد على صعيد القدرة على التكيف مع اقتصاد المعرفة والصناعات عالية التقنية، إضافة إلى إعداد جيل قادر على خلق الثروة، للقطع مع جيل يستهلك أكثر من 70% من الناتج المحلي كأجور ونفقات تشغيل".
ويشير الخبير الاقتصادي محمد ياسين السوسي، إلى أن الواقع يختلف تماماً عن الصورة التي تروج لها الدعاية الرسمية حول رهان الدولة على الأجيال المقبلة، حيث لم تتجاوز ميزانية وزارة المرأة والأسرة والطفولة 56 مليون دولار لعام 2016، وهو ما يعني أن الدولة لا تستثمر في هذا الهيكل المخصص لرعاية شؤون الأسرة والطفل سوى 0.4% من الموازنة العامة. ويقول ياسين: "أما بالنسبة إلى الإنفاق على البحوث والبرامج والتعهدات في صلب هذه الوزارة، فهي لا يتجاوز 8 ملايين دولار سنوياً تخصص لصالح أكثر من مليونين و800 ألف طفل تونسي".
يشمل التقصير الحكومي تجاه الاستثمار في هذه الثروة البشرية المستقبلية جميع القطاعات الأخرى التي توجه خدماتها لهذه الفئة العمرية من المجتمع، حيث غادر أكثر من 100 ألف طفل مقاعد الدراسة خلال السنوات الخمس الأخيرة نتيجة تدهور الظروف الاقتصادية للأسرة، وارتفاع معدلات البطالة والفقر خصوصاً في المدن والبلدات الداخلية، وفي الأحياء الفقيرة المنتشرة في المدن الكبرى للبلاد. أما عن مصير هؤلاء الأطفال، فيشير السوسي إلى أن التسول أو الاستغلال أو الانحراف هو مآلهم. إذ أكدت دراسة صادرة عن اليونيسف عام 2014، أن 3% من التعداد الإجمالي للأطفال في تونس ينخرطون قبل سن العاشرة في أعمال خطرة خصوصاً في الشارع، كباعة متجولين أو يتم إدماجهم في شبكات التسول. والنتيجة كانت أكثر من 10 آلاف طفل دون 15 عاماً يقبعون في السجون بحسب ما أعلنه مرصد الإعلام والتكوين والتوثيق والدراسات حول حماية حقوق الطفل.
القطاع الصحي بدوره يعكس وجهاً آخر من أوجه إهمال الأطفال في تونس حيث يؤكد السوسي أن الجهات الداخلية تعاني من مآس حقيقية نتيجة تزايد وفيات الأطفال نظراً لبعد المراكز الصحية عن التجمعات السكنية الريفية، أو بسبب سوء المراقبة وتتبع الحالات، إضافة إلى نقص التجهيزات والأطقم الطبية في المستشفيات العمومية.
إلى ذلك، تمثل المحاضن الخاصة معضلة كبيرة انعكست على تكوين الناشئة، حيث تعود ملكية 82% منها إلى القطاع الخاص نظراً لاستقالة القطاع العام من هذه المهمة. وفي ظل غياب رقابة الدولة على برامج التكوين وظروف استقبال الأطفال، فإن قسماً كبيراً من رياض الأطفال تحولت إلى عنصر رئيسي في تخريب التكوين العلمي لهؤلاء. هذا بالإضافة إلى مشكلة التفاوت الكبير بين الجهات في توزيع المحاضن المدرسية، إذ أن 16 محافظة لم تتجاوز المعدل الوطني المقدر بـ 4.3 حاضنة لكل 100 ألف طفل، وفق السوسي.
يؤكد المختص في علم الاجتماع ناصف العمدوني: "إن الحكومات المتعاقبة مضت في إحداث هياكل ومؤسسات مختصة في مجال حماية الطفولة، على غرار وزارة المرأة والأسرة والطفولة وإحداث خطة قاضي الأسرة وقاضي الأطفال وتعيين ما يفوق 80 قاضياً للاضطلاع بهذه الخطط من مجموع 1500 قاض. كما تم إحداث وتعميم سلك مندوبي حماية الطفولة بمختلف المحافظات، وإقرار خطة مندوب عام لحماية الطفولة لرصد الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال بمختلف أشكالها".
إلا أن هذه الترسانة التشريعية والهياكل التنفيذية لم تتمكن بحسب ناصف من توفير الحماية المرجوة للطفل على صعيد ضمان حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، حيث تتواصل الانتهاكات بمختلف أشكالها ضد الطفل. بل تفاقمت ظاهرة استغلال الأطفال والتشرد والتشغيل قبل السن القانوني والانقطاع المبكر عن الدراسة متأثرة بالوضع الاقتصادي المتدهور الذي تعيشه البلاد منذ سنوات.
ويؤكد ناصف أن معضلة التفاوت الجهوي كرست ظاهرة عدم المساواة بين مختلف الفئات الاجتماعية التي ينتمي إليها الأطفال، خصوصاً بين الوسطين الريفي والحضري فيما يتعلق بتوفير خدمات الحماية من برامج ومؤسسات.



المساهمون