دونالد ترامب والانتخابات الأميركية... أكثر من ظاهرة تهريجية عنصريّة

دونالد ترامب والانتخابات الأميركية... أكثر من ظاهرة تهريجية عنصريّة

06 مارس 2016
لا تخلو مواقف ترامب من السخرية والنقد(روبين بيك/فرانس برس)
+ الخط -
يردد الشارع الأميركي دعابة عن المرشح الجمهوري المحتمل للرئاسة الأميركية، رجل الأعمال دونالد ترامب، مفادها أنّ التفكير في خوض انتخابات الرئاسة استغرق منه 24 ساعة لاتخاذ القرار، لكنه أمضى بضعة أسابيع يفكر بخوضها باسم الجمهوريين أم الديمقراطيين؟ لأنه لم يكن يعرف ماهية انتمائه. هذه الطرفة تجسّد واقع ترامب في أصدق صورة إن لم تكن هي حقيقة ما حدث بالفعل. فالرجل النيويوركي يختلف عن الجمهوريين في معارضته للتورط الخارجي في العراق وسورية وفي غيرهما. يريد تحرير أميركا من الصين التي نسج خيوط العلاقة معها رئيس جمهوري، هو ريتشارد نيكسون، ووزير خارجية جمهوري، هو هنري كيسنجر. 

يبدو ترامب أقرب إلى الديمقراطيين من الجمهوريين، لكن بعضهم يرون أنه اختار القرار الأذكى، إذ إن ترشيحه باسم الجمهوريين يضمن له الفوز في الولايات الصعبة على أمثاله. في حين أنّه من السهل عليه الفوز في الولاية الحاسمة التي ينتمي إليها (نيويورك)، حتى وإن كان جمهورياً. فقد فاز، سابقاً، رئيس الولايات المتحدة الـ40 الجمهوري، رونالد ريغان، بولاية كاليفورنيا التي يعتبرها الحزب الديمقراطي من الولايات التابعة له. بل إنّ ترامب يملك من السمات ما يجعله قادراً أيضاً على الفوز بولاية كاليفورنيا أمام أي مرشح آخر من أي حزب كان.

وعقب إعلان نتائج الجولة الانتخابية الأخيرة في السباق التمهيدي للرئاسة الأميركية، ظهر المرشح المثير للجدل في المقرّ المركزي لحملته الانتخابية في مدينة بالم بيتش بولاية فلوريدا، ليعقد مؤتمراً صحافياً، قام فيه بدور المحلّل السياسي لسير الانتخابات التمهيدية أكثر من دور المرشح المتصدر لنصف السباق. وعلى الرغم من السطحية والعفوية التي عرف بها الرجل طوال حملته الانتخابية، كان استعراضه للسيناريوهات المحتملة لمسار الانتخابات الأميركية وتحليله لمجرياتها الحالية دقيقاً وعميقاً إلى درجة أوضحت بصورة غير مباشرة بعض الخفايا التي تدفع الجمهوريين إلى الاستماتة في محاولات إسقاطه مع منافسته المرشحة الديمقراطية المحتملة، هيلاري كلينتون.

وأهم ما كشفه ترامب في رسائله التحذيرية، هو أن الصراع الحقيقي بين الليبراليين من جهة والمحافظين القدماء والجدد من الجهة الأخرى، لم يعد على منصب الرئيس الذي لا يدوم أكثر من ثماني سنوات والتي لا تساوي شيئاً في أعمار الأمم، بل يتمحور الصراع حول ما هو أخطر من هذا المنصب. ولخّص ترامب الصراع الحقيقي بثلاثة إلى أربعة مواقع في المحكمة العليا، أصبح أحدها شاغراً بعد وفاة أحد القضاة المحسوبين على التيار المحافظ من أعضاء المحكمة.

وتوقّع ترامب أن يلحق به "ثلاثة أعضاء آخرين على الأقل أوغلوا في السن"، مرجحاً أن يكون رحيلهم خلال سنوات الرئيس المقبل وهو المكلف دستورياً بمهمة اختيار البدلاء. وخاطب ترامب المؤسسة الجمهورية التقليدية المهيمنة على الحزب قائلاً "تريدون أن يتولى الرئيس المقبل وليس الرئيس الحالي مهمة الاختيار، وأنا معكم في ذلك. لكن علينا أن نعمل معاً على ألّا تناط المهمة بالسيناتور (مرشح ديمقراطي) برني ساندرز أو الوزيرة السابقة هيلاري كلينتون، لأن خياراتهما ستكون أسوأ من خيارات الرئيس الأميركي باراك أوباما".

وأوضح أنّ "البدلاء سيكونون أصغر عمراً من سابقيهم، وسيدوم بقاؤهم في المحكمة العليا لعقود مقبلة يتولون خلالها حسم قضايا خلافية مصيرية تحدد مستقبل البلاد والأجيال المقبلة، إما بتعزيز نفوذ التيار المحافظ أو تقليصه إلى أن يضمحلّ". ويرى مراقبون أنّ إقحام ترامب لموضوع المحكمة العليا في مؤتمر صحافي، يتعلق بحملته الانتخابية، لأنه يريد تحفيز قادة الحزب الجمهوري على مدّ أيديهم إليها ليضمنوا العودة للبيت الأبيض عن طريقها، وتعيين من يشاؤون في عضويتها. أما محاولات قطع الطريق إليها، فإنها تؤدي إلى خسارة الجميع، وفقاً للمراقبين.

اقرأ أيضاً: انتخابات أميركا... جنون جمهوري لإزاحة ترامب وتفادي السيناريو الفرنسي

وفي مؤشر على حيلة الرجل، انتهز فرصة مؤتمره الصحافي الذي نقلته محطات التلفزة الكبرى، ليوجّه أكثر من رسالة تطمين وتحذير إلى مختلف الأطراف المعنية. غير أن قيادات الحزب الجمهوري التقليدية حازت على النصيب الأوفر من رسائله. ومن المفارقات، أن ترامب الذي كان يهدد في بداية حملته الانتخابية بخوض السباق كمستقل إذا أساء الحزب الجمهوري التعامل معه، أصبح الآن يحذر الحزب الجمهوري من إنزال مرشح مستقل قد يسحب منه جزءاً من الأصوات الجمهورية، تُمكّن أي مرشح ديمقراطي منافس من الفوز بالرئاسة وخسارة الجمهوريين لها مرة أخرى.

لهذا السبب، جاءت نصيحة ترامب الساخرة من المرشح المدلل للمؤسسة الحزبية، السيناتور ماركو روبيو أن ينسحب من المعركة الانتخابية لتحويلها إلى سباق ثنائي بين ترامب والسيناتور تيد كروز. وتأتي هذه النصيحة لتكون بمثابة رسالة أخرى إلى المؤسسة الحزبية بأن ترامب يدرك ما ستنتهي إليه محاولات إسقاطه التي استحوذت على تفكير قادة الحزب إلى حد لم يعد هدفهم العمل على إنجاح مرشحهم المفترض مارك روبيو، بل أصبح جل همهم حشد المرشحين لإسقاطه في الولايات المحوريّة الكبرى.

ومثلما كانت مهمة تيد كروز إسقاط ترامب في تكساس، فإن مهمة روبيو منع رجل الأعمال من النجاح في فلوريدا، الموطن الانتخابي لروبيو. كما أنّ مهمة الحاكم جون كيسيك الذي اعترف بفقدانه الأمل بالنجاح في تمثيل الحزب، وأنه لم يعد يريد سوى الفوز في ولاية أوهايو التي يحكمها، هي إسقاط ترامب في أوهايو التي لم يصل أي مرشح جمهوري إلى الرئاسة من دونها على الإطلاق. وإذا ما خسر ترامب مثل هذه الولايات المحوريّة، فسيؤدي ذلك إلى تقليص فرص حصوله على النسبة المطلوبة من المندوبين لتمثيل الحزب. كما سيكون بإمكان مؤسسة الحزب أن تتعلّل بذلك لاختيار مرشح آخر، ربما يكون السيناتور تيد كروز الأقل ضرراً على المؤسسة الحزبية من وجهة نظر قادتها بالمقارنة مع ترامب.

وبعد مطالبته بانسحاب روبيو، تمنّى ترامب أن يقتصر السباق الجمهوري "من الآن وصاعداً عليّ وعلى تيد كروز". لكن كي لا يُفهم هذا التمني بشكل خاطئ على أنّه تزكية لقدرات كروز، استدرك ترامب كلامه قائلاً، إنّ كروز لن يتمكن من الفوز عليه في أهم ولايتين على الإطلاق، هما كاليفورنيا ونيويورك، في إشارة منه على ما يبدو إلى أن الولايتين هما الأكبر سكانياً ولا يستهوي ناخبيهما عادة التصويت للمرشحين المعروفين بتطرفهم الأيديولوجي.

وفي الوقت عينه، تحدّث ترامب بلغة الواثق بأنه الجمهوري الوحيد بين كافة المشاركين في السباق الذي لديه القدرة على الفوز بولايات الشمال والغرب الكبرى المحسوبة تاريخياً على الحزب الديمقراطي، بما فيها نيويورك وكاليفورنيا، الأكثر أهمية من ولايات الجنوب بما فيها تكساس وفلوريدا. وهو بهذا التذكير يلفت نظرهم كأي محلّل من خارج الحلبة، إلى أنّ تهمة الليبرالية اللاصقة به ستكون مفيدة له لاحقاً عندما تصبح المعركة الانتخابية حامية في الولايات المعروفة بالتوجه الليبرالي بين الجمهوريين والديمقراطيين. وهو أمر يفتقر إليه كروز المرشح المحتمل رقم 2، الذي تلفّظ مراراً بعبارات معادية لولاية نيويورك على وجه التحديد، وضيّق على نفسه الخيارات، إذ لن يكون مقبولاً خارج نطاق المؤمنين بأيديولوجيّته.

وكرّر ترامب تحذيره لقيادات الحزب الجمهوري، مشيراً إلى أنهم (أعضاء الحزب) يخططون له بإقحام مرشح ثالث بصفة مستقل تلبية لرغبتهم في إسقاطه، التي قال إنها استحوذت على مخيلاتهم. ولفت إلى أنهم بذلك سيسقطون الحزب الجمهوري قبل أن يسقطوه شخصياً، باعتبار أن تشتيت أصوات الجمهوريين لن يخدم سوى المرشح الديمقراطي.

اقرأ أيضاً: ترامب يرعب أسواق المال.. ومخاوف على مكانة الدولار

وتوقع ترامب عدم تمكّن هيلاري كلينتون من خوض السباق في الانتخابات العامة لأنها، بحسب اعتقاده، ستحال للمحاكمة جراء إقدامها على تخزين معلومات حكومية سرية في خوادم تم تركيبها في منزلها. وأضاف أنّه بذلك سيواجه برني ساندرز الذي وصفه بـ"الضعيف"، قائلاً إنه "لم يستطع حتى أن يحمي ميكرفوناً انتزعته منه عنوة ناشطتان أثناء مهرجان انتخابي، فكيف لمثل هذا الضعيف أن يحمي الولايات المتحدة"؟

وللتدليل على أنه سيكون أكثر قوة من ساندرز، لمّح ترامب إلى أنه لم ولن يسمح بأي محاولة للاقتراب منه أثناء مهرجاناته الجماهيرية، وأنه يصدر أوامر حاسمة للتصدي بعنف للمشاغبين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الحزبية. وكانت بعض التجمعات والمسيرات الانتخابية التي شارك فيها ترامب في بعض الولايات شهدت أعمال شغب عرقية بين أنصاره، ومعظمهم من البيض، وبعض المناوئين له من الأميركيين الأفارقة. وطلب ترامب من أنصاره إخراج من اعتبرهم مشاغبين من مهرجانه الانتخابي، وتم ذلك بالعنف.

ومن الأساليب التكتيكية التي يلجأ إليها ترامب لجذب المزيد من المؤيدين، إطلاق تصريحات مثيرة للجدل لكنّها مدروسة، ثم يتراجع عنها بعد أن يكون الغرض منها قد تحقق. ففي رسالة وجهها لقطاع المتعصبين الأميركيين، أعلن ترامب أنه سيعمد إلى قطع رؤوس الإرهابيين وتعذيبهم بالتغطيس في المياه أو بما هو أشد من وسائل التعذيب. ولأن هذا التصريح قوبل باستهجان وعرّض صاحبه لانتقادات واسعة، سرعان ما تراجع عنه قائلاً، إنه سيلتزم بالقانون ولن يصدر أي أوامر تخالفه. وعندما سئل عن سبب تراجعه، أجاب بأنّه لم يتراجع، وإنما سيعمل على تغيير القانون بالطرق الدستورية ليتمكن من تنفيذ تهديداته بتعذيب الإرهابيين وقطع رؤوسهم أو ما هو أفظع من ذلك، بحسب تعبيره. وبرّر ترامب هذه النيات بقوله، إن الإرهابيين ليس لديهم قانون يلتزمون به ولا معايير يراعونها في حربهم ضد الإنسانية، فلماذا عليه أن يراعي الإنسانية في التعامل معهم، وفقاً لترامب.

من هنا، يمكن الاستنتاج أن ترامب لم يعد مجرد شخصية يستهويها التهريج بل يمثّل حركة واسعة تمتلك رؤية وخطة واضحة لأصحابها، إن لم تكن واضحة للآخرين. وتمضي هذه الشريحة في ثورتها ضد التيار التقليدي في الحزب الجمهوري لتعيده إلى جذوره الفعلية التي غيّرها المحافظون الجدد المنسلخون في معظمهم من الحزب الديمقراطي ممن فروا إلى أحضان الحزب الجمهوري في عهد ريغان الذي حاز على إعجابهم. وهذا الأخير أتى من الحزب الديمقراطي قبل أن يتحوّل إلى جمهوري.

والمعروف أنّ الحزبَين الجمهوري والديمقراطي يتقاسمان الغالبية البيضاء في الولايات المتحدة بالتساوي تقريباً، غير أن الحزب الديمقراطي كثيراً ما حقق التفوق على الجمهوري بأصوات الأميركيين الأفارقة. وللحفاظ على هذا المكسب وهذه الأقلية، لم يتردد "الديمقراطي" في تبني إيصال الرئيس الأسود الأول إلى البيت الأبيض في تاريخ البلاد. لكن الحزب الجمهوري أدرك بدوره هذه الفجوة، فأراد سدها عن طريق الاستعانة بالأقلية اللاتينية التي تكاد تنافس الأميركيين الأفارقة في حجم نفوذها. ولتعميق الرابط المستقبلي بين الحزب الجمهوري والأقلية اللاتينية، لم يمانع الحزب في إفساح الطريق لمرشحين من هذه الأقلية للمنافسة على تمثيل الحزب.

وكانت المؤسسة الحزبية تميل إلى تفضيل ربيب المؤسسة، السيناتور ذي الأصل الكوبي ماركو روبيو لإيصاله إلى البيت الأبيض. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، وهو أنّ الحزب كاد أن يخسر الغالبية البيضاء من أجل الأقلية المراد إرضاؤها. وفي اللحظة المناسبة، جاء الرجل الذي تربّى على اقتناص الفرص ليقدّم نفسه منقذاً للأغلبية البيضاء، وثائراً على المؤسسة الحزبية التي عجزت عن تقديم مرشح مقنع للجمهوريين قبل أن يقنع باقي الأميركيين. ولا يزال الرجل الأبيض الثري دونالد ترامب يكتب فصول الرواية التي لن ينتهي الأميركيون من قراءتها إلّا في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.

اقرأ أيضاً: ترامب وكلينتون في صدارة سباق الرئاسة..عشية "الثلاثاء الكبير"

المساهمون