الأرجنتين بعينيّ بنجامين نيشتات: إدانة سينمائية

الأرجنتين بعينيّ بنجامين نيشتات: إدانة سينمائية

21 يناير 2019
"روجو" لبنجامين نيشتات: عنف الأفراد (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
من حادثةٍ بسيطة تقع يوميًا، تشكّلت بنية مشهد افتتاحي غاية في القوة والمتعة والإثارة. إنه المدخل الفعلي لـ"روجو" (الأحمر) للأرجنتيني بنجامين نيشتات (1986)، الذي ينتمي إلى الـ"الفيلم نْوَار" (Film Noir)، المُنجز تحديدًا في سبعينيات القرن الـ20. 

في المشهد المذكور، يدور نقاش حول إمكانية توفير طاولة شاغرة في أحد المطاعم. يطلب زبون من آخر يجلس وحيدًا احترام رغبته في الجلوس وتناول وجبة سريعة، طالما أنّ الآخر ينتظر زوجته، ولديه متّسع من الوقت. بعد حوار بارع ومُكثّف ومُثير، تتوتّر الأجواء. في النهاية، يترك الزبون الجالس طاولته. يقف وينتظر. لا ينتهي الأمر عند هذا الحد. يحتدّ الحوار بعد أن يستفز الزبون الجالس، بحديثه ونظراته وسخريته، الآخر. بعدها، يلقّنه الآخر درسًا لا يُنسى في التهذيب كاشفًا افتقاره إلى الذوق واللياقة والتربية. هذا كلّه على مسامع الجميع، ومن دون توجيه كلام مُباشر إليه.

لاحقًا، يحتدّ الجالس ويُستثار. ينقلب الأمر إلى ما يُشبه الاشتباك بالأيدي، الذي ينفضّ سريعًا. يُطرَد الزبون الدخيل. ينتهي الموضوع كليًا بوصول الزوجة، وتناول وجبة العشاء، ونسيان المسألة. مع مغادرتهما المطعم، يفاجآن بحجارةٍ تُحطّم زجاج السيارة. إنه الزبون الوافد وقد جُنّ جنونه. تحدث مُطاردة في الظلام بين الرجلين، تنتهي بإطلاق الزبون الوافد النار على نفسه أمام ذهول الزوجين. لكنه لا يموت، فالرصاصة اخترقت جانبًا من رأسه. ينقلانه بسيارتهما إلى أقرب مستشفى. يتردّد الزوج في إدخاله المستشفى لسبب غامض. يخبر زوجته أنه سيوصلها إلى المنزل. يعود بالرجل إلى مستشفى أو طبيب آخر أمهر وأبرع في معالجة حالات دقيقة كهذه. لكنه، في النهاية، يلقيه في الصحراء.

اللقطات الافتتاحية المُتلاحقة والمُكثَّفة تلك تحمل براعة سردية ورشاقة حوارية وإتقانا بالغا في الأداء. افتتاحية جميلة ومُثيرة للغاية، ولا تنسى. تسبقها لقطة غامضة بعيدة لمنزل يخرج الناس منه مُحمَّلين بما يُمكنهم حمله، حتى يُفرغ المنزل تمامًا من كل ما فيه. ما قصّة المنزل، والزبون الوافد؟ من هو الرجل وزوجته؟ لماذا يتصرف بثقة وحسم وحزم؟ لماذا ينال كلّ التقدير والاحترام من الآخرين؟ تساؤلات يجيب عنها السيناريو البارع (بنجامين نيشتات نفسه) في صيغة تشبه، إلى حدّ كبير، سلسلة دوائر تنفتح وتدفع إلى التساؤل عن سبب وجود تلك الشخصيات ووقوع تلك الأحداث. لاحقًا، يُغلق المُخرج نيشتات الدوائر ببراعة.

في الختام، يُعرَف من هو الزبون، الزائر العابر في تلك المدينة المجهولة، ويُعرَف لأي سبب جاء. في منتصف الفيلم، يتبيّن لمن المنزل، المهجور الآن، ولِمَ نُهبت محتوياته كلها. الشخصية الغامضة تكشف هويتها: كلاوديو (داريو غراندينتّي)، أحد أشهر المُحامين في المدينة. تدريجيًا، يتمّ التعرّف عليه كبطل رئيسي. تقريبًا، هو لن يختفي عن الشاشة طوال الفيلم. تتسم ملامحه بصرامة وجدية بالغتين، إلى درجة مُبالغ فيها أحيانًا. لا تتغيّر تقاسيم وجهه أبدًا.

ما الدافع إلى تغيير كلاوديو رأيه، وتركه جثة الزبون العابر تفارق الحياة في الصحراء؟ لا يُحاول السيناريو تحليل الدوافع أو الأسباب. لكن، شيئًا فشيئًا، ومع الاقتراب من شخصية كلاوديو، بكلّ ما لها وعليها إنسانيًا وأخلاقيًا، يتكشّف مدى تأرجحها بشدّة بين الخير والشر. هي غير قادرة على ممارسة الخير بحدّ ذاته، ولا فعل الشرّ مجانًا، أو بدافع من داخلها. ينتاب كلاوديو التردّد كثيرًا قبل رمي الجسد في الصحراء. مع ذلك، يُعذّبه ضميره قليلاً، من وقت إلى آخر. ورغم علاقاته وصلاته وثروته، يخبره أحدهم عن منازل خاوية يهجرها أصحابها بسبب الأحوال السياسية في الأرجنتين. يُقنعه في النهاية بالاحتيال قانونيًا، وشراء تلك المنازل ثم بيعها له ولزوجته عبر وسطاء لا يعرفون حقيقة الأمر. يخشى العواقب فيتردّد، لكنه يوافق في النهاية. المنزل الذي يظهر في المشهد الافتتاحيّ يكون أوّل تلك المنازل. تستهويه اللعبة. إذًا، هو ليس فاسدًا أصيلاً، لكنه قابل بالفساد، ومستعدٌّ للإقدام على فعل أي شيء.

نموذج كلاوديو حاضرٌ في نسخة مُصغّرة منه تظهر في رفيق ابنته. هو أيضًا مستعدٌّ لاقتراف أي شيء، كأنّ يُلقي في الصحراء، مع رفاقه، أحد الذين تقرّبوا من فتاته. الأمر يبدو عاديًا في الأرجنتين حينها. الدولة تفتك بالمعارضين، الشيوعيين منهم تحديدًا. هكذا اختير عنوان الفيلم. الدم الذي لطَّخ البلد في السبعينيات الفائتة، وفترة المُعتقلات والسجون والاختفاء القسري وهروب المعارضين من البلد والحكم العسكري والديكتاتورية. في الفيلم، لن يكون الأحمر لون الدم فقط، ذاك الذي تسفكه السلطة في مطاردتها المعارضين، بل أيضًا في ما يمارسه الأفراد بحقّ بعضهم البعض، خطفًا وقتلاً ونهبًا واستيلاء على الأموال والممتلكات. يظهر هذا كلّه في نظرة مُكثّفة ومُعمّقة لشخصية كلاوديو، ولأفراد أسرته البورجوازية. نموذج لم يلعب مع السلطة الفاشية، فهو لم ينتم إليها ولم يُدِنْها. في الوقت نفسه، استفاد من وجودها لتثبيت نمط عيشه وترسيخه، بارتكاب جرائم سرية يحمي نفسه بها على حساب الآخرين، في ظلّ غياب تام لدولة تلهث للقضاء على السياسيين.

من دون شك، يُعتبر "روجو" ـ الحاصل على "المحارة الفضية" لأفضل إخراج في الدورة الـ66 (21 ـ 29 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان سان سيباستيان السينمائي الدولي"، بالإضافة إلى جوائز لجنة التحكيم لأفضل تصوير و"المحارة الفضية" لأفضل ممثل (داريو غراندينتّي) ـ من أهم وأفضل ما قُدِّمَ عن الأرجنتين ودمويتها في الأعوام القليلة الفائتة. لم يتطرّق إلى الاجتماع والاقتصاد والسياسة مُباشرةً، مكتفيًا برصد شديد التكثيف لشخصيات عديدة، تعبّر بقسوة عن المجتمع الأرجنتيني المضعضع، في فترة مُفارقة في تاريخه تتمثّل بالتفسّخ والانحطاط، وباختلاط كلّ شيء، فصار التدني قاسمًا مشتركًا بين الجميع، حتى بين الطبقات الوسطى، وانعدم التمييز بين ما تفعله السلطة الحاكمة وما يمارسه الأفراد.

هذه صورة بالغة الأسى والصدق والأصالة، صنعها بنجامين نيشتات في فيلمٍ رائع ومتميّز إخراجيًا يُعيدنا، في تفاصيله كلّها، إلى سبعينيات القرن الـ20 في الأرجنتين. تفاصيل متمثّلة بالملابس والسيارات والألوان وآلية التصوير، كما بالسيناريو والحوار والأداء.

المساهمون