(I, Danel Blake) نقد للمؤسسات البيروقراطية والنظم الليبرالية

(I, Danel Blake) نقد للمؤسسات البيروقراطية والنظم الليبرالية

29 ابريل 2017
نستطيع قراءة الفيلم كدعوةإلى التوجه للشارع بعد موت دانييل(Getty)
+ الخط -
"لا أبحث أو أطلب المساعدة الخيرية، اسمي دانييل بليك أنا إنسان ولست كلباً، أطالب بحقوقي، أطلب منكم أن تعاملوني باحترام، أنا دانييل بليك، أنا مواطن لا أكثر ولا أقل"، هذه الكلمات من ورقة كتبها مواطن بريطاني مات في ازدحام العولمة وانحطاط الحداثة، في وقت كان ينتظر فيه أي رد إيجابي من مكتب العمل، ذلك العجوز صاحب الأزمة القلبية.

الفيلم يعد من الأعمال التي تنتقد الليبرالية الاجتماعية والبيروقراطية لدى المؤسسات الخدمية، وتُسلط الضوء على الفجوة القابعة بين تلك المنظومات الخدمية والمواطن، هذه المؤسسات التي لطالما خلقت من أجل خدمة الناس، ويطرح لنا الطرف المناقض أو عواقب هذه البيروقراطية التي قد تؤدي إلى العمل في السوق السوداء، كبيع منتجات أجنبية دون تحمل رسوم الضرائب، أو العمل في الدعارة.

رغم ذلك نرى أن الفيلم يعول على المجتمع في الكفة الأخرى، المجتمع الذي نراه يقف في أكثر من مشهد في طابور مكتب العمل أو المؤسسات الخيرية، وكيف أن الشخصيتان الأساسيتان في الفيلم مستعدتان لإعانة بعضهما بعضاً رغم عدم وجود علاقة قرابة أو صداقة قديمة، ورغم القليل مما يمتلكونه.


وفي إحدى المقابلات قال مخرج الفيلم المتألق كين لوكاش الحاصل على السعفة الذهبية مرتين، عند وصفه إحدى شخصيات فيلمه (I, Daniel Blake) المستوحاة من بحثه في الواقع، وهي الأم (الممثلة Hayley Squires) التي لم تأكل لثلاثة أيام لكي تطعم أطفالها، قال:  "إن لم تكن غاضبا لذلك، إذاً أي نوع من الأشخاص أنت؟" فهل حقا لوكاش يدعو المشاهدين للغضب بتقديمه لفيلمه التاسع عشر.

يصور لنا المخرج كين لوكاش، الشخصية الرئيسية دانييل (59 عاما) والذي قام بدوره الممثل الكوميدي ( Dave Johns) أنه من الطبقة العاملة يعمل نجاراً يجيد مهنته، ويتحلى بالكرم واللطف، وبأنه ذلك العامل الذي لم تسنح له الفرصة يوماً لأن يتبع أو يتعلم أي وسيلة من وسائل التكنولوجيا، بذلك نرى دانييل قد تورط في مأزق الحداثة التي تبدأ بخلق مفهوم جديد للأُمية.

ومن خلال أحداث الفيلم، سنفهم أن ما حدث معه كان بسبب تغيُر معايير الأمية والجهل، فألا تكون قادراُ على استخدام الكمبيوتر لكتابة سيرة ذاتية للبحث عن عمل، يُعد هذا إلى حد ما في خانة الأمية في يومنا هذا، والتي قد تؤدي إلى البطالة لعدم وجود الوسيلة التي تقود للحصول على العمل، حتى كعامل في الأثاث أو البناء.

يطلب مكتب العمل من دانييل أن يكتب سيرته الذاتية في شكل (CV) وهو في الحقيقة لم يلمس حاسوباً من قبل، بالإضافة لمعاناته مع موظفة الرعاية الصحية، هكذا يفتتح المخرج لوكاش فيلمه بشاشة سوداء وصوت دانييل يتحدث لسيدة تسأله عن تفاصيل تتعلق بقدرته الحركية، فيطرح دانييل عليها تساؤلا يدل على عدم فهمه لأسباب تلك الأسئلة، فيسألها باستغراب: "هل أنت ممرضة أم طبيبة؟"، فنسبة لفهم النجار دانييل لهذا المنصب الوظيفي، فإنه لا يوجد أحد يسمى موظف الرعاية الصحية.

هنا نلمس بداية عبثية عن هذه المؤسسة التي يحاول دانييل التواصل معها للحصول على عمل، بعدما أُجبر على العمل رغم أنه كان يعاني من أزمة قلبية، لكن طبيبه حوّل ملفه الصحي لمكتب العمل مدعيا أنه قادر على العمل، الأمر الذي يجعلنا نلمس وجود فجوة كبيرة بينه وبين هذه المؤسسة التي لم تكن قابلة لإعطاء دانييل أي جواب عن تساؤلاته، بل كانت تعتبر هذه التساؤلات خارج نطاق الحديث!

معاناة دانييل لم تؤدّ به إلى أن يكون قاسي المشاعر، نسبة لمفهوم أن الضحية يتحول لجلاد، فبعد إحدى جولات الخذلان التي عانى منها دانييل في مكتب العمل وبيروقراطيته، يتعرف دانييل إلى امرأة وطفليها، ليكون ذلك العجوز معيناً لهم في ترميم منزلهم الجديد، ونعلم من الأحداث أن هذه الأم أيضاً كانت تعاني من بيروقراطية الدولة، وكما نعلم أن دانييل ذاته يعاني من تلك البيروقراطية ومن ضيق الحالة المادية، التي تدفعه لبيع جميع أثاث منزله، وهو كل ما يملكه.

بالإضافة لتقديم شخصية الأم الشابة التي يتعرف إليها دانييل، بحالة مزرية لا تستطيع بسببها حتى أن تأكل لكي تطعم أطفالها، وأنها تصل لدرجة من الجوع تؤدي الى انهيارها قبل حصولها على المعونات الخيرية، ونراها في وقت آخر مضطرة للسرقة من أجل الوفاء بمستلزماتها الأساسية، ففي ذلك السياق الاجتماعي والاقتصادي، نرى الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم، تنتميان إلى طبقة هي ليست الطبقة الفقيرة المعدمة، لكنها المتوسطة التي تُسحق في ظل الدولة الليبرالية ونظام البيروقراطية.


وفي سياق الحلول البديلة للعيش، نرى السرقة التي كان لا بد منها في ذلك الوقت العصيب ضرورية كمستند للواقع الاقتصادي والاجتماعي وذلك لانعدام الخيارات الأخرى، في ضوء عدم وجود فرصة عمل للأم.

وفي محاكاة أخرى للمرأة، يقدم أيضاً الفيلم نموذج المرأة العاملة في الدعارة والأسباب وراء وجودها في هذا النوع من العمل، ويمكننا اعتماد هذا السياق في تسليط الضوء على هذه السلوكيات الاجتماعية، كنقد لاذع ومباشر لنظام الدولة البريطانية المعتمد على البيروقراطية الوحشية، والذي سيدفع الناس إلى هذا النوع من السلوكيات بسبب الحاجة.

وفي سياق أدعياء الديمقراطية، نرى أن البيروقراطية التي حازت على معالجة مُركزة من الفيلم، ليست مؤثرة فقط على الصعيد الاقتصادي للمواطنين، لكنها أيضاً على الصعيد الديمقراطي الذي تدعيه بلاد النُظم الليبرالية مثل بريطانيا، فنرى أن مواطنا مثل دانييل لا يملك حق الكلام إذا لم يكن كلامه داخل إطار أسئلة الموظفين المتعلقة بوقت محدود أو موضوع محدد، تلك المعاناة التي لحقت لانتظار دام أكثر من ساعة على الهاتف للرد على سؤال استفساري قدمه دانييل لمكتب العمل.

وهذه الأحداث هي التي دعت دانييل للتحدث عن الاحترام في ورقته المكتوبة بخط يده قبل موته، إضافة لأسلوب الحق بالطرد الذي يملكه مكتب العمل، الشبيه بنظام مدرسي، يملك فيه المُدرس الحق في إخراج الطلاب إذا احتجوا أو لم يأتوا مع أوراقهم المطلوبة كاملة وفي الوقت المحدد.

رغم كل الصبر الذي تحلى به إلى حد ما دانييل، لكنه لم يبق له إلا طريقة التحدي والاحتجاج، في الشارع أمام مكتب العمل، ليكون هذا المشهد دلالة على قابلية الشارع للانضمام لدانييل لولا اعتقاله المبكر من الشرطة، ففي الجانب الأخر من الشارع كان يوجد تجمع لا بأس به من المواطنين يصفقون لما يقوم به دانييل من احتجاج.

أعتقد أننا نستطيع قراءة الفيلم كمحاولة لدعوة إلى التوجه للشارع بعد موت دانييل، وهي ليست دعوة طوباوية تتميز بالتفاؤل، لكنها محاولة للاحتجاج من المخرج لوكاش، الذي لطالما ترجم رسالة فيلمه على أنها تدعو للغضب.

ولكن أيضا سنتلقى من لوكاش، أن المواطنين أقرب للموت، من أن يتغلبوا على بيروقراطية تلك المؤسسات (الخدمية).

المساهمون