تلوث الهواء في اليمن...حرق الفحم وتصنيع الإسمنت يدمران الصحة والبيئة

تلوث الهواء في اليمن... حرق الفحم وتصنيع الإسمنت يدمران الصحة والبيئة

18 سبتمبر 2022
غياب الرقابة البيئية عن النشاط الصناعي في اليمن (العربي الجديد)
+ الخط -

يكشف تحقيق "العربي الجديد" عن آثار تجاهل حماية البيئة اليمنية من تلوث الهواء الناتج عن محطة توليد للطاقة تعمل بالفحم ومصنع للإسمنت، ما أسفر عن حصار الانبعاثات لأهالي لحج وانتشار الأمراض المزمنة وفقدان مصادر الرزق.

تتردد اليمنية انسجام عبدالله مثنى على مشفى المسيمير الريفي في محافظة لحج جنوب اليمن بشكل مستمر، بسبب معاناتها من التهاب في الشعب الهوائية وسعال مستمر، نتيجة تعرضها للغبار والملوثات الصادرة عن محطة توليد الطاقة الكهربائية باستخدام الفحم الحجري التابعة للشركة الوطنية لصناعة الإسمنت (خاصة)، ما يجعلها بحاجة لموسعات الشعب الهوائية باستمرار.

وتتوافد على مشفى المسيمير، عشرات الحالات المشابهة لمعاناة انسجام يوميا، ممن يتشاركون بذات الأعراض وأبرزها السعال الشديد المصحوب بخروج زلال تخالطه الأتربة، مع ضيق في التنفس، بسبب استنشاق الهواء الملوث، كما يرصد الطبيب سفير علي الحوشبي مدير المشفى، والذي لاحظ تزايد انتشار الأمراض التنفسية بالإضافة إلى أخرى مزمنة ارتفعت نسبة المصابين بها منذ إنشاء مصنع الإسمنت ومحطة توليد الطاقة.

ويتطابق ما وثقه الحوشبي مع إحصائيات مدير مكتب الصحة في مديرية المسيمير، محمد السيد، إذ يكشف أن حالات الإصابة بأمراض تنفسية مثل الحساسية والربو تجاوزت 43 ألف حالة من البالغين والأطفال، بين عامي 2019 و2021. 

وتبدو خطورة الأمر، في معاناة سكان مديرية الملاح المحاذية للمسيمير وتقع على بعد 38 كيلومترا من الشركة، من تأثير الملوثات الناتجة عن مخلفات تصنيع الإسمنت وحرق الفحم الحجري لتوليد الطاقة اللازمة للمصنع، وبحسب بيانات مكتب الصحة في مديرية الملاح، تم توثيق 15.749 حالة مصابة بواحد من أمراض الجهاز التنفسي، بينما توفي 42 شخصا من سكان المديرية بسبب أمراض السرطان وأكثرها شيوعا الرئة والمعدة والكبد بين عامي 2010 و2018.

الملوثات تحاصر الأهالي

تثبت دراسة علمية بعنوان "التقييم البيئي لمصنع إسمنت الوطنية" أعدها في عام 2021 الباحث والأكاديمي في جامعة عدن، عنتر الشعيبي، وحصلت "العربي الجديد" على نسخة منها، أن مدى الغبار المتساقط والمؤثر سلبا على صحة السكان في المناطق المحيطة، وكذلك على مكونات البيئة، تراوح بين 5.38 و10.16 غرامات لكل سنتيمتر مربع، بمتوسط 7.11 غرامات لكل سنتيمتر مربع، بينما تراوحت تراكيز الغبار المنبعثة من طواحين المواد الأولية والفحم والمرسب الكهربائي (جهاز يفصل الجسيمات الصلبة أو السائلة) بين 89.2 و148.5 مليغراما لكل نانو متر مكعب، وبالتالي فقد تجاوزت الحدود المسموح بها وهي 50 مليغراما لكل نانو متر مكعب.

وأجرى الباحث استبيانا شمل 63 شخصا من سكان المنطقة المحاذية للمحطة في مديريتي المسيمير والملاح، وأظهرت النتائج أن 75% منهم يعانون من أحد الأمراض المزمنة أهمها مشاكل الصدر والجهاز التنفسي والقلب والسرطان والفشل الكلوي والتشوهات الخلقية، وكان الأطفال الأكثر تضررا، تليهم النساء وكبار السن.

و"لم تكن هذه الأمراض معروفة في المنطقة قبل عشر سنوات"، بحسب الحوشبي الذي يؤكد أن هناك حالات كثيرة متضررة لم يتم توثيقها، مرجعا انتشار الأمراض إلى التعرض المستمر للملوثات الناجمة عن الإسمنت والفحم الذي يحترق لتوليد الطاقة.

43 ألف حالة إصابة بأمراض تنفسية في المناطق المجاورة لمصنع الإسمنت

وتعتبر مداخن أفران الإسمنت مصدرا رئيسيا لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون Co2، ويتراوح مستوى انبعاث الغاز من الفرن بين 10 و100 مليغرام لكل نانو متر مكعب، وقد يصل إلى 500 مليغرام لكل نانو متر مكعب، في حين أن التركيز المسموح به هو 1.0 مليغرام لكل متر مكعب، بحسب دراسة التقييم البيئي للمصنع، والتي تشير إلى أن "الديوكسينات" من أبرز الملوثات الناجمة عن أفران الإسمنت واحتراق الفحم الحجري، وهي بحسب منظمة الصحة العالمية مجموعة من المواد المركبة المترابطة كيميائيا شديدة السمية وتتراكم في الغذاء، وفي الأنسجة الحيوانية الدهنية، ويؤدي التعرض المزمن لها إلى الإصابة بأنوع من السرطان بخاصة الكبد والرئة والمعدة، وكذلك مسؤولة عن سرطان الثدي لدى النساء، وبإمكانها التسبب في مشاكل إنجابية وكذلك إعاقة النمو وإلحاق أضرار بالجهاز المناعي وعرقلة الهرمونات، وفق ما جاء على موقع الوكالة الدولية لبحوث السرطان.

ويتولد عن حرق الفحم دخان يحتوي على خليط من غازات أبرزها أكاسيد النيتروجين وتشمل NO و-N2O السامة، وتؤدي إلى تهيج العين والجهاز التنفسي، بينما يؤدي التعرض لها على المدى الطويل إلى الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، بالإضافة إلى أن ثاني أكسيد الكبريت So2 السام وأول أكسيد الكربون Co يتفاعلان مع الرطوبة وتنتج عنهما أحماض كبريتية، وتكوّن أبخرة ملتهبة ومهيجة للأنسجة البشرية خاصة العينين والجهاز التنفسي، وكذلك تنبعث مركبات عضوية متطايرة vocs والجزيئات الصلبة متناهية الصغر القابلة للاستنشاق وتُسمى (PM2.5)، وهذه الجزيئات عندما ترتفع مستوياتها في الجو بين 11و15 ميكروغراما لكل متر مكعب تزداد مخاطرها، وفقا للدراسة.

الصورة
شركة الإسمنت
الشركة الوطنية لصناعة الإسمنت في لحج جنوب اليمن (العربي الجديد)

وإذا وصلت هذه المخلفات إلى الجهاز التنفسي أو الدوري للإنسان، فإنها لا تؤدي إلى إصابته بأمراض الصدر والرئتين فحسب، وإنما توثر سلبا على أعضاء حيوية أخرى في الجسم، مثل القلب والدماغ والكليتين والكبد والبنكرياس وتسبب أمراضا تحسسية جلدية نادرة، بحسب إفادة الدكتور جلال السقاف، مدير مشفى ابن خلدون في لحج، وأستاذ الأحياء في جامعة عدن. 

ويؤكد ما سبق، قائمة أعدّتها لجنه شكلها أهالي المسيمير المحتجون على نشاط الشركة ومحطة الفحم، تكشف عن تشخيص عبد الفتاح فضل، بمرض اللوكيميا (سرطان الدم)، خلال عام 2017، كما تعرض عبد اللطيف محمد، لفشل وظائف الكلى، بداية عام 2021، وهما ضمن 196 حالة مصابة بأمراض مزمنة وخطيرة منتشرة بين السكان بمركز المسيمير (على بعد 18 كيلومترا من موقع مصنع الإسمنت ومحطة الفحم)، منهم 77 حالة إصابة بأمراض القلب و34 بالسرطان، و26 بالتهابات الكلى، و24 بالكبد، و10 بالأعصاب والتشنجات، و10 بالفشل الكلوي، و8 بالتشوهات الخلقية، و5 بأمراض أخرى، مقابل وفاة 59 شخصا آخرين، معظمهم من فئة النساء وكبار السن، وذلك خلال الفترة الزمنية  بين عامي 2010 و2021، بحسب إفادة محسن ربيح، نائب رئيس لجنة الأهالي.

تهديد متفاقم للبيئة

يتوقف تأثير محطة الفحم على شدة وكثافة الانبعاثات الناتجة من احتراقه وفق توضيح الأكاديمي هشام محمد ناجي، رئيس قسم العلوم البيئية في كلية البترول والموارد الطبيعية  بجامعة صنعاء، مفسرا ذلك بأنها تتحرك عبر الرياح باتجاه السكان القاطنين في المحيط والأراضي الزراعية والمسطحات المائية.

وتكشف نتائج فحص عينات أجريت في إطار دراسة تقييم نشاط المصنع، وشملت 11 عينة من التربة بعمق 10 سم، منها 3 عينات من المحيط الداخلي للمصنع و8 عينات من المحيط الخارجي في 4 اتجاهات وعلى بُعدين 500 متر و1000 متر عن المصنع، أن قيم معامل الإثراء للرصاص والنحاس والنيكل تقع في حدود التلوث المتوسط (2≤EF≤5)، أما قيم معامل الإثراء للكادميوم والزنك فتقع في حدود EF≥40 أي أنها في حدود التلوث الشديد.

احتراق الفحم ينتج عنه دخان يحتوي على خليط من الغازات السام

وجمعت 8 عينات من أوراق النباتات من المحيط الخارجي في 4 اتجاهات، وتبين أن تراكيز العناصر الثقيلة فيها تجاوزت الحدود المسموح بها، إذ بلغ متوسط الكادميوم 4.9 ميكروغرامات لكل غرام من العينة، بينما النسبة الطبيعية هي 0.2 ميكروغرام لكل غرام، وكذلك الرصاص كان تركيزه 8.37 ميكروغرامات لكل غرام وهي أعلى من النسبة الطبيعية البالغة 5.0 ميكروغرامات لكل غرام.

الصورة
الاسمنت
آثار الملوثات تبدو على أوراق الشجر في محيط شركة إسمنت الوطنية (العربي الجديد)

في المقابل، يرفض سالم بدر، نائب مدير شركة الإسمنت، نتائج الدراسة، قائلا إنها "خصصت 3 ملايين دولار لمنظومة الفلاتر في محطة توليد الطاقة"، وتابع: "لو كانت النتائج للعينات المفحوصة من خارج بيئة المحطة صحيحة، لما نمت الأشجار داخل بيئة المحطة إذ يوجد أكثر من سبعة آلاف شجرة بما فيها الفاكهة فضلا عن محمية طبيعية تضم الطيور والحيوانات النادرة وخلايا النحل، ولم يلحظوا عليها أي تأثيرات".

في المقابل، نفى الشعيبي أن تكون بيئة موقع المحطة والمصنع سليمة من تأثير الملوثات، قائلا إن "بيئة المصنع متأثرة بدرجة أكبر ولكن الإدارة لم تسمح بالفحص في الداخل وأيضا عمال المصنع ورفضت توزيع استبيان عليهم".

وانعكس تلوث التربة ومصادر المياه على النشاط الزراعي والحيواني الذي شهد تراجعا كبيرا بخاصة في المناطق القريبة من مصنع الإسمنت مثل قرى جول مدرم والسراحنة والنخيلة، بحسب عبد الحبيب محمود مدير مكتب الزراعة والريّ في مديرية المسيمير، مشيرا إلى تراجع إنتاج المحاصيل الزراعية خلال الأعوام الثلاثة الماضية بنسبة 75%، مؤكدا أن ما يتراوح بين 30 و40 شجرة بينها أشجار معمرة تموت سنويا، وشاع إجهاض إناث الحيوانات، كما خسر 45 نحالا خلايا نحلهم بشكل جزئي وكلي.

ويعزو ناجي إجهاض الإناث إلى التعرض لهذه السموم، أما النحل فإن العناصر الثقيلة والغازات والملوثات تتراكم داخل جسمه ما يؤدي إلى موته، وكذلك الحال بالنسبة للنباتات، حيث تتسبب الأمطار الحمضية المصاحبة لاحتراق الوقود الأحفوري بزيادة حموضة التربة وموت النباتات.

ويقول المزارع محسن علي، أن أشجار مزرعته تواجه زحف اليباس (الموت التراجعي إذ تموت الشجرة وھي واقفة بعد أن تتلف الأوراق العلوية أولا ثم ینتقل التلف إلى الأوراق التحتية حتى تموت) بشكل تدريجي، مشيرا إلى أن "أربعين شجرة في مزرعته من بينها أشجار معمرة كالليمون والزيتون والجوافة، منيت باليباس الكامل والجزئي، خلال العشر السنوات الماضية، ما دفعه إلى العمل لدى الآخرين لتوفير متطلبات المعيشة له ولأسرته".

احتجاجات مستمرة ورقابة غائبة

يفتقر مصنع إسمنت الوطنية إلى غالبية وسائل السيطرة على الملوثات، بخاصة الغازات المنبعثة من الفرن ومحطة الكهرباء، وفق الشعيبي الذي عاين أثناء إعداد الدراسة وجود مرسبات في منطقة طواحين المواد الخام والفرن لتجميع الغبار وتم ربطها بجهاز تحكم لقياس تراكيز الغبار، لكن تمت برمجة جهاز التحكم على إعطاء قيمة ثابتة مقدارها 150 مليغراما لكل نانو متر مكعب، ولم يتم السماح للشعيبي بأن يتأكد من وجود مرسبات في غلايات ومداخن محطة الكهرباء، كما توثق الدراسة عدم وجود محطات رصد الغبار والغازات في المحيطين الداخلي والخارجي للمصنع الذي يفتقر أيضا لمحطة معالجة مياه الصرف الصحي.

وتنص المادة 41 من القانون رقم 26 لعام 1995 بشأن حماية البيئة، على أنه يجوز للسلطات إلزام أصحاب المشروعات التي حصلت على الموافقة، بشراء أجهزة رصد مواصفات التصريف والتلوث الناتج عنها، لكن يغيب دور السلطات الرسمية المعنية بتطبيق القانون والمراقبة وفق الشعيبي، وهو ما يرفضه رئيس الهيئة العامة لحماية البيئة، في الحكومة المعترف بها، فيصل الثعلبي، مشيرا إلى أن الهيئة شكلت لجنة من المختصين كلفتها بالبحث في شكاوى المواطنين من أبناء المسيمير المحتجين على استمرار عمل محطة الفحم الحجري في المنطقة، لكن الشعيبي الذي كان أحد أعضاء هذه اللجنة يؤكد أن "ما استطاعت اللجنة القيام به ينحصر فقط في رصد وتسجيل 100 شخص مصابين بأمراض مختلفة وتوفي اثنان منهم"، نافيا قيامها بأي قياس لانبعاثات من المصنع أثناء زيارة أولية نفذتها، ثم عرقلت إدارة المصنع عملها، تحت ذريعة أنها تجري صيانة دورية، لكن سالم بدر ينفي اعتراض الشركة على عمل اللجنة، محيلا المسؤولية إلى المحتجين الذين منعوا استكمال مهمتها بعد الانتهاء من عمل الصيانة.

الصورة
التوليد
محطة توليد الطاقة باستعمال الفحم الحجري التابعة لشركة إسمنت الوطنية (العربي الجديد)

ويؤكد بدر أن محطة توليد الطاقة حاصلة على تصريح من الحكومة الانتقالية في عام 2012، كما أن وثائق التأسيس بما فيها دراسات الأثر البيئي ودراسات الجدوى للمشروع مصدق عليها من كافة الجهات الحكومية.

ويشدد مدير التشغيل في مصنع الأسمنت محمد فؤاد على أن إدارته تمتلك أجهزة مراقبة لأداء وكفاءة الأجهزة التي تختص بالتخلص من الغبار والغازات، والتي توجد في غلايتي المصنع، وتعمل بكفاءة عالية وتتوافق مع المواصفات الدولية، مشيرا إلى وجود ما يعرف بمرسبات الغبار، وتابع : "يتكون مرسب الغبار لكل غلاية من أربع غرف، ويمر الهواء الخارج من خلال الغرف الأربع ويوجد في كل غرفة عدد من الألواح ومحول كهرباء، ويتم تسليط فولتية سالبة علي الهواء الخارج فيتم شحن الذرات الموجودة داخل الهواء فتتأين لتلتصق بالألواح الموجودة داخل الغرفة نتيجة الشحنة التي اكتسبتها ثم يتم الطرق على الألواح من خلال مطارق تعمل بنظام محكم، بما ينقل المواد إلى خزانات توجد تحت كل غرفة من غرف المرسب".

لكن أهالي المسيمير يردون على ما سبق بأن أعداد المصابين بأمراض مزمنة تتزايد كما أن أحوالهم المعيشية تتراجع بسبب التدهور البيئي المتسارع.