فوضى مشافي العراق... تجاهل تحذيرات مبكرة من فاجعة "ابن الخطيب"

فوضى مشافي العراق... تجاهل تحذيرات مبكرة من فاجعة "ابن الخطيب"

بغداد

تمارة عماد

تمارا عماد
تمارة عماد
صحافية عراقية
08 مايو 2021
+ الخط -

يكشف استقصاء "العربي الجديد" عن تحذيرات مبكرة من أسباب وقوع فاجعة مشفى ابن الخطيب، تجاهلتها كل الأطراف، ما أدى إلى انفجار كان يمكن تفاديه، لكنه قابل للتكرار بسبب كورونا وما كشفه من اهتراء منظومة العراق الصحية.

- وسط أسرّة مرضى كورونا الراقدين في قسم العناية المركزة بمستشفى ابن الخطيب الحكومي في بغداد، اعتاد ذوو المرضى الزائرين والمرافقين لهم، التجول بين أسطوانات الأوكسجين التي تحتل حيزا كبيرا من الغرف والممرات، وبعضهم كان يدخن السجائر أو حتى يستخدم "الهيترات" (جهاز تسخين كهربائي) بالقرب من المرضى الذين يتلقون العلاج، دون أي اعتبار لمخاطر اندلاع حريق، بحسب وصف شاهد العيان عواد صباح والذي كان برفقة شقيقه المصاب بالفيروس في المستشفى وقت انفجار أسطوانة الأوكسجين في 24 إبريل/نيسان الماضي، ما تسبب بحريق هائل طاول أجنحة العناية المركزة الثلاثة، في كارثة راح ضحيتها 130 شخصاً بينما أصيب 110 آخرون بحسب ما أعلنته المفوضية العليا لحقوق الإنسان ووزارة الداخلية العراقية، بعد يومين من الفاجعة، والتي دفعت تحقيقات "العربي الجديد"، إلى جمع أدلة ووثائق وإفادات شهود عيان للكشف عن أسباب وقوعها وهل كان بالإمكان تفاديها؟، والأهم هل تتشابه أسباب وقوعها مع طريقة التشغيل في مشاف أخرى؟.

كيف وقعت الكارثة؟

بدأ الحريق من الجناح الأول في قسم العناية المركزة (الإنعاش) بالطابق الثاني لمستشفى ابن الخطيب، والذي كان يرقد فيه 18 مريضا إضافة إلى مرافقيهم، ثم امتد إلى الجناح الثاني وكان فيه 13 مريضا مع مرافقيهم أيضا، وعقب ذلك طاول الجناح الثالث الذي ضم 19 مريضا مع مرافقيهم، بحسب إفادة وسْناء الشمري، مساعدة طبيب في المستشفى والتي كانت متواجدة وقت حدوث الفاجعة.

ولم يتوقف عند هذا الحد بل امتد إلى غرفة رابعة خارج قسم العناية المركزة، وهنا تؤكد الشمري أن العديد من الضحايا والمصابين كانوا من بين المرافقين، بسبب عدم الالتزام بالتعليمات التي تقضي بأن يكون مع المصاب بكورونا مرافق واحد فقط، وهو ما عدّته تراخيا من إدارة المستشفى في ضبط الأمر، وما زاد الخطورة إدخال ذوي المرضى "الهيترات" وغلايات الماء وغيرها من الأجهزة الكهربائية.

ساهمت أسطوانات الأوكسجين المنتشرة في غرف المرضى بامتداد الحريق

اللافت أن ما سبق يخالف التعليمات التي أكد عليها الكتاب رقم 4328 الصادر في 26 ديسمبر/كانون الأول 2019 عن دائرة صحة بغداد/الرصافة والتي يتبع لها المستشفى والذي حصلت عليه "العربي الجديد"، ويقضي بـ "منع استخدام "الهيترات" داخل البناية، ومنع التدخين، وعدم استخدام "الساندوتش بانل Sandwich panel" في تشييد البناية، وهي ألواح عازلة تصنع واجهاتها من صفائح فولاذية مجلفنة مطلية بطلاء بوليستر، المصنف على أنه منتج قابل للاشتعال بدرجة كبيرة أو يشتعل بسهولة، كما حذر من استخدام نقاط وتوصيلات وأسلاك كهربائية رديئة الصنع، وكأنه تحذير مبكر من وقوع الكارثة لكنه لم يلتفت إليه أحد بحسب ما رصدته معدة التحقيق.

الصورة
ابن الخطيب2

ويؤكد على ما سبق ما ذهبت إليه المفوضية العليا لحقوق الإنسان في بيانها حول الحادث بأن الإهمال والتقصير في تطبيق شروط السلامة العامة تسببا فيه، وأبرز مظاهره اكتظاظ الردهات بأعداد الزوار من ذوي المرضى، وهذا دليل على عدم التزام إدارة المستشفى بتعليمات الوزارة في ما يخص دخول المرافقين إلى ردهات الإنعاش والعزل.

فشل نظام الأوكسجين

منذ إدخال شقيق صباح إلى العناية المركزة بسبب إصابته بكورونا، تولى بنفسه على مدار 10 أيام تغيير أسطوانة الأوكسجين ثلاث مرات في اليوم، وتعلم طريقة فتح الصمام وربط المنظم من ذوي المرضى المرافقين الآخرين ممن كانوا يقومون بهذه المهمة، بخاصة فترة المساء، بسبب قلة الكادر الطبي المتواجد، وفقا لما قاله لـ"العربي الجديد"، وهو ما  تؤكده الشمري بقولها أن طبيب الاختصاص نادرا ما يدخل غرف المرضى، والاعتماد الكلي على الممرضين ومساعدي الأطباء، وفي ليلة الحادثة كان المناوب طبيبا عاما مع 13 ممرضا في كل المستشفى، ما دفع مرافقي المرضى إلى تولي رعايتهم وتوصيل الأوكسجين لهم بالاعتماد على الأسطوانات لأن نظام الأوكسجين المركزي "فاشل" على حدّ وصفها، وقد يكون ضخه بطيئاً أو ينفد فجأة، ما يخيف ذوي المرضى، خاصة مع الحالات الحرجة التي تحتاج لكميات أكبر من الأوكسجين.

الصورة
ابن الخطيب 3

الوضع ذاته في المشافي العامة الأخرى كما يشرح عمر البياتي، طبيب الطوارئ المقيم في مستشفى اليرموك التعليمي في بغداد، ويعزو الاعتماد على الأسطوانات بالرغم من وجود نظام أوكسجين مركزي إلى ارتفاع أعداد المصابين، فأصبحت المشافي تفضل الاعتماد على الأسطوانات لأن الأوكسجين من النظام المركزي بحاجة لضبط كمية الغاز والتعامل مع الأجهزة من قبل الطبيب أو الممرض، وليس الشخص العادي.

الصورة
ابن الخطيب4
نظام الأوكسجين المركزي (العربي الجديد)

النوم وسط القنابل الموقوتة

يمكن أن يحتاج المصاب بكورونا ما بين 2 إلى 3 أسطونات يوميا ما يستلزم وجود 12-15 أسطوانة في كل جناح على الأقل، بحسب الطبيب البياتي، في حين أن مستشفى ابن الخطيب كانت تدخله 100 أسطوانة يوميا، ويكون بجانب كل مريض أسطوانتان، علما بأن عدد المرضى في بعض الأوقات وصل إلى 25 شخصا داخل الغرفة الواحدة، وفقا للممرض محمد سامر أحد شهود العيان على الحادثة، والذي يقول إن تكدس الأسطوانات ساعد على اشتعال النيران إذ سمع نحو 15 انفجارا متتاليا في أجنحة العناية المركزة.

وتشكل الأسطوانات قنابل موقوتة في حال التعامل الخاطئ معها من غير المتخصصين، إذ يحذر الطبيب جواد كاظم أخصائي باطنية في مستشفى مدينة الطب ببغداد، من احتمالات وقوع انفجار إن وجد زيت على يد الشخص أو وجهه وفتح الصمام بصورة خاطئة، وكذلك وضع المنظم بطريقة غير صحيحة وإذا كان رأس الأسطوانة قديما ويحتوي تكلسات. مؤكدا وقوع حوادث كثيرة مع تفشي الوباء بسبب التعامل الخاطئ مع الأسطوانات، وهو ما يؤكده كذلك الممرض محمد سامر والذي قال أنه شهد خلال الأشهر الماضية حوادث حروق في الوجه أو اليدين أو الأغطية، تسببت بها الأسطوانات.

ويوضح المسعف خلدون الصعب، مؤسس مجموعة الطوارئ للإغاثة الإنسانية، أن الأسطوانات تحتوي غازا مضغوطا بطريقة فائقة، وفي حال تقريب أي مواد قابلة للاشتعال كالزيوت أو حتى بعض أنواع مرطبات البشرة التي تحتوي زيوتا، والكحول والدهون قد تتسبب بحريق وتنفجر الأسطوانة إن كانت بالقرب من مصدر حرارة أو لهب.

يلجأ المصابون بكوفيد-19 إلى أسطوانات الأوكسجين بسبب فشل النظام المركزي

ويبدي كاظم قلقه من تزايد هذه الحوادث مع اقتراب فصل الصيف وخاصة أن العديد من المستشفيات تترك الأسطونات في البهو الخارجي أو تكون معرضة بصورة مباشرة للشمس، وهو ما وثقته معدة التحقيق في جولات ميدانية رصدت خلالها أن الأسطوانات تحتل حيزا كبيرا من الغرف والممرات في المشافي، ما يعد مخالفة لشروط التخزين السليمة للأسطوانات الفارغة أو الممتلئة، والتي تتطلب وضعها في غرفة تخزين خاصة جيدة التهوية ولا تتعرض لدرجات حرارة ورطوبة عالية وبعيدة عن مصادر الاشتعال، ويتطلب تخزينها أيضا الفصل بين الأسطوانات الفارغة والممتلئة، ووضعها بشكل رأسي، على أن يكون بقربها مطافئ حريق تتم تعبئتها بانتظام. وفق إرشادات منظمة الصحة العالمية حول تدابير السلامة التي يجب الالتزام بها عند التعامل مع الأوكسجين الطبي، سواء كان على شكل غاز أو سائل.

وتحذر المنظمة في ردها على سؤال لـ"العربي الجديد" من أن الأوكسجين عامل مؤكسد يمكن أن يؤدي إلى حريق أو انفجار إذا لم يتم التعامل معه بطريقة سليمة تراعي آلية نقل الأسطوانات على عربة خاصة وعدم دحرجتها على الأرض، وعدم التعامل مع أكثر من أسطوانة في الوقت ذاته.

عوامل انتشار الحريق

استمر حريق مستشفى ابن الخطيب ثماني ساعات وفق أفراد الدفاع المدني الذين حضروا للإطفاء، ويعود ذلك إلى إسهام الأوكسجين في الاشتعال، نتيجة حدوث احتراق ذاتي لغاز الأوكسجين المضغوط، ما أدى إلى انفجار الأسطوانات، كما يوضح الفني بمديرية الدفاع المدني في بغداد فلاح حسن، مشيرا إلى أن الهواء المحيط بنا يحتوي على نسبة 21% من الأوكسجين، وزيادة بسيطة في هذه النسبة يمكنها أن تحدث ما يسمى بـ (تخصيب الأوكسجين) وتحدث حريقا يصعب السيطرة عليه.

وما زاد الطين بلة، أن محاولات دخول طواقم الدفاع المدني عبر مخارج الطوارئ باءت بالفشل لأن جميع المخارج كانت مغلقة بأجهزة وأسرة قديمة، وفق عمار العبودي، أحد أفراد الدفاع المدني المشاركين في إطفاء الحريق، بالإضافة لذوبان السقوف والجدران المصنوعة من مادة "الكوبوند" في غرف العناية المركزة وهي مجموعة من الألواح المصنوعة من الألمنيوم تحتوي بداخلها على مادة فلينية قابلة للاشتعال، وكانت دائرة صحة بغداد/الرصافة قد حذرت من استخدامها داخل المشافي في كتابها، بالإضافة إلى منع التغليف بمواد سريعة الاشتعال للقاعات والغرف والجدران، ومنع استخدام الستائر والسجاد سريع الاشتعال. وهو ما لم تلتزم به إدارة المستشفى التي رفضت الرد على ما وثقته "العربي الجديد" حتى استكمال التحقيق الحكومي.

وبينما يلقي الناطق باسم المفوضية المسؤولية في ارتفاع أعداد الضحايا على الدفاع المدني لتأخر وصوله نحو ساعة بعد وقوع الحريق، يرد العميد جودت عبد الرحمن مدير العلاقات العامة والإعلام في مديرية الدفاع المدني ببغداد بأنهم وجهوا 20 فرقة إطفاء وإنقاذ فور ورود البلاغ، تمكنت من إنقاذ 90 مريضا من خلال النوافذ والسلالم الخارجية، موضحا أن السبب الرئيسي في امتداد الحريق يرجع لعدم وجود منظومة إطفاء فاعلة، وكان يمكن السيطرة على الحريق لو توفرت منظومة الإطفاء وفق قوله. وإلى جانب ذلك، أكد مرافقو المرضى الذين قابلتهم معدة التحقيق أنهم حاولوا استخدام مطافئ الحريق ووجدوها فارغة.

الصورة
ابن الخطيب5

وتبين 5 كتب رسمية حصلت عليها "العربي الجديد"، آخرها في 25 مارس/آذار 2019 أن مدير المستشفى الدكتور سلمان حامد علي، طلب من دائرة صحة بغداد إنشاء منظومة إنذار وإطفاء للحرائق، ولم يتم الاستجابة لطلبه، وبالتواصل مع الدائرة المعنية، تذرع مهندس في قسم المشاريع الخدمية بدائرة صحة الرصافة، رفض ذكر اسمه (خوفا من خسارة عمله) بأنهم جهة تنفيذية تؤدي أعمالها وفقا للمخصصات المالية "غير الكافية" من وزارة الصحة.

منظومة صحية مهترئة

تنسحب حالة الفوضى في استخدام أسطوانات الأوكسجين ونقص الكادر الطبي على مشافٍ أخرى، كما يوثّق التحقيق، ما جعل  العراق في المركز 87 عالمياً في تقديم الرعاية الصحية من أصل 89 بلداً وفقاً لمؤشر أفضل نظم الرعاية الصحية في العالم لسنة 2021، بناء على بحث أجرته مجلة CEO world الأميركية، مستندة في تقييم الدول إلى 5 متغيرات صحية مختلفة، هي: البنية التحتية للرعاية الصحية، واختصاصيو الرعاية الصحية (الأطباء وموظفو التمريض وغيرهم من العاملين الصحيين) والكفاءات، والتكلفة (كم دولارا مخصص للفرد الواحد)، وتوافر الأدوية الجيدة، والاستعداد الحكومي.

ويحمّل الدكتور علي البياتي، المتحدث باسم المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، مسؤولية الحادثة لوزارتي الصحة والداخلية، لعدم تجهيز المستشفيات بأنظمة استشعار الحرائق وإطفائها للسيطرة على مثل هذه الحوادث، وكانت هذه نتيجة الإهمال المستمر من قبلهما. كما أكد تقرير لجنة الصحة والبيئة النيابية حول الفاجعة الصادر في 26 إبريل/ نيسان الماضي عدم وجود مراقبة وفحص منتظم من قبل الدفاع المدني لأنظمة ووسائل إطفاء الحرائق.

ذات صلة

الصورة
غزة 1

تحقيقات

تقتل دولة الاحتلال الناجين من قصفها عبر استهداف طواقم الدفاع المدني وتدمير معداتهم، في ظل اضطرارهم للإسراع من موقع إلى آخر لمحاولة انتشال ناجٍ فرصه في الحياة أكبر من غيره، بينما ظل آخرون يصرخون حتى لحقوا بأحبائهم
الصورة
مسعفون في غزة وسط طوفان الأقصى 1 (محمد الحجار)

مجتمع

منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي في حربه المركّزة على قطاع غزة، وسط عملية "طوفان الأقصى"، تتعمّد قواته استهداف الطواقم الصحية والإسعاف في ما يُعَدّ انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني، وهو ما أقرّت به الأمم المتحدة وجهات أخرى.
الصورة

سياسة

تطابقت شهادة العراقي طالب المجلي لـ"العربي الجديد" مع ما حمله تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، نشر اليوم الاثنين، بخصوص صنوف التعذيب والقتل التي تعرض لها سجناء عراقيون من أمثاله في سجن أبو غريب سيئ الصيت قبل نحو 20 عاماً.
الصورة

مجتمع

أصيب 30 شخصاً، بينهم 4 في حالة حرجة، يوم الأربعاء، إثر اندلاع حريق هائل في مركز تجاري وسط مدينة مطروح، شمال غربي مصر، ناجم عن ماسي كهربائي.