آفة الكذب بتجلياتها الحديثة

آفة الكذب بتجلياتها الحديثة

14 مارس 2023

(غولناز فتحي)

+ الخط -

ربما تكون أكثر البضائع تداولاً بين الناس من مختلف الأعراق والأعمار والأجناس، وأسرعها وصولاً من فم المنتج إلى أذن المستهلك الأخير، الكذب بصوره المختلفة ودرجاته المتفاوتة وأشكاله العديدة، ولا سيما أنّ هذه السلعة رخيصة الثمن، بل وتباع بالمجّان إذا كان المصدر مجهول الهوية، إلى الحد الذي يمكن فيه اعتبار هذا المنتوج البشري، المفتقر إلى براءة اختراع خاصة، أكثر مخرجات الإنسان قدماً، وأيسرها انتقالاً عبر الأزمنة وبين الأمم والأجيال. وذلك لخفّة وزن الفرية، وتدنّي سعرها، إذا كان للكذب سعر، فما بالك عن سرعتها الصاروخية ونحن اليوم في عصر الفضاءات المفتوحة لكلّ من هبّ، ومواقع التواصل الاجتماعي لكلّ من دبّ.
وفي ما نعلمه، والعهدة على الرواة الثقاة والفلاسفة وعلماء الاجتماع، أنّ هذه البضاعة الرائجة صناعة إنسانية قديمة قدم تشكل المجتمعات البشرية الأولى، صنعها الإنسان قبل أن يضع الشرائع والقوانين المنظّمة للعلاقات التراتبية الأولى داخل قبيلة عصر القوس والنشاب. وأحسب أنّ مقترفي هذه الفعلة في الأزمنة الغابرة كانوا من العبيد والضعفاء والمهمّشين في قبائلهم ومجموعاتهم السكانية، ممن يصنّفون بمفردات اليوم معدمين ورثّين وقليلي حظ، مارسوا الكذب أول الأمر اضطراراً، ثم احترفوه، جلباً لمنفعة صغيرة، أو لدرء شرّ مستطير أو دفعاً لقصاص محتمل.
وقيل قديماً في تسويغ الكذب، وتلطيف صورة الكذّاب، خصوصاً بعد نزول الشرائع والأديان ووضع الدساتير وإعلاء سوية القيم المدنية، إنّه ملح الرجال، خصوصاً إذا وقع الأمر في معرض الفشر والادّعاء ولم يرقَ إلى الغش والتزوير. كما سيقت ذرائع تبريرية وتخفيفية غير مكتوبة لتبيض وجوه الكذّابين الصغار، وتهوين أمر انكشاف مزاعمهم، تمهيداً لإعادة تأهيلهم حيناً، أو لإطالة حبل الكذب لهم إذا كانوا من ذوي الحظوة أو أصحاب سلطة أو مال.
غير أنّ أمراً يبدو أنه قد تبدّل أخيراً في ما يخصّ قوام هذه الآفة التاريخية الشائنة، وبعدما صارت القيم والمفاهيم والبضائع والأفكار والأموال عابرة للحدود والقوميات، خصوصاً بعدما دخل العالم عصر العولمة، وولج الإنسان زمن الرقمنة. إذ كما تعولمت استخدامات العلوم وقوانين التجارة ونظم الإنتاج وأنماط الحياة وأشكال المعرفة وموارد الثروة، تعولمت صناعة الكذب أيضاً، وحاز مقَارفوها براءة اختراع بمواصفات قياسية عالية الجودة، يصعب على المحترفين الكلاسيكيين لهذه الصناعة القديمة تقليدها، وبالتالي، منافسة سادتها الجدد.
ومع أنّ العولمة منتجٌ غربي بامتياز، فإنّ عولمة الكذب ليست حكراً على الغرب وحده في زمن القرية الكونية الصغيرة والسماوات المفتوحة، بل تمكّن السادة الكبار في عالم المال والإعلام الغربي، بقوة نفوذهم، وبفعل سطوتهم العسكرية والاقتصادية، ناهيك بماكيناتهم الإعلامية الجبّارة، من تطوير صناعة الكذب بطبعتها الأولى كمفهوم اجتماعي يحظى بدرجةٍ من القبول والتسامح، ونقله من ثمّ إلى مستوى الكذب السياسي المعمّم على أوسع نطاق، بما في ذلك تشويه السمعة واغتيال الشخصية، وجعله بمثابة سلعةٍ شائعة الاستخدام، أو قل من ظواهر الحياة السياسية المعاصرة.
وعليه، إذا كان الكذب ذات يوم مضى يصنّف بين اللونين الأبيض والأسود حيناً، ويسمّى ملح الرجال في أغلب الأحيان، فإنه يمكن أن يسمّى اليوم ذباب العالم الافتراضي، تُقارفه الدول والحكومات والمؤسسات والأدعياء كيفما اتفق، ويروّجه ناطقون رسميون مبتسمون دائماً، ونشطاء على مواقع التواصل، وتتلقّفه من ثم العامة من المتلقين، باعتباره البضاعة الرخيصة في الأسواق. وليس أدلّ على ذلك من انبهار المستمعين والمشاهدين والقرّاء بهذا الفيض الهائل من الضخّ الإعلامي عبر الفضائيات ومواقع الإنترنت، حيث يتبارى الرّعاع ومحدودو الإدراك على التسابق في ما بينهم، تعليقاً وتعقيباً، على ما يُعرض عليهم كحقائق نهائية، وهي في أكثريتها الغالبة فقاقيع هواء.
ومع أنّ قلة من الناس لا تُقبل على هذه البضاعة متقنة الإعداد والتغليف، ولا تستسيغ لها مذاقاً، فقد يكون ذلك على محدوديته كافياً لإنتاج قوة دفع صغيرة معاكسة للتيار، تنافح عن الحقيقة، وتحافظ على شموع ضئيلة باقية، لاستعادة قدرة العقل السويّ على إجراء المحاكمات العقلية، والمقاربات المنطقية، لفض الالتباسات وسبْر الأغوار، على الطريق الطويل لتعرية الكذب أولاً، بالتالي تنقية الواقع الافتراضي، ما أمكن، مما علق به من خزعبلات وتدليس، فحبل الكذب قصير مهما طال، والحقيقة تعلو ولا يُعلى عليها في نهاية المطاف، حتى وإن طال المطاف.