أبعدُ من قَدّور اليوسفي
أعادت وفاة عميد الأمن السابق، قَدّور اليوسفي، إلى الواجهة، ملف ما تعرف بسنوات الجمر والرصاص في المغرب، الذي كان يُفترض أن تعالجه هيئة الإنصاف والمصالحة (2004-2006) بشكلٍ أكثر شمولية، من أجل التوصّل إلى الحقيقة الكاملة، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وضمان عدم تكرارها، والحفاظ على الذاكرة وتحقيق مصالحة وطنية شاملة على أساس تحديد المسؤوليات وإقرار العدالة وجبر الضرر.
عُرف اليوسفي مُشرفا على معتقل "درب مولاي الشريف" في الدار البيضاء، وأحدَ الوجوه البارزة في منظومة القمع عقودا طويلة، وبالأخص في ما له صلة باستنطاق معتقلين سياسيين وتعذيبهم. وبوفاته تتجدّد الأسئلة بشأن ''حقيقة'' ما حدث في تلك السنوات سيئة الذكر، في ظل غياب سياسة واضحة في مجال العدالة الانتقالية، تتوخّى إنتاج حقيقة أكثر إنصافا للضحايا، قبل وفاة المسؤولين عن الانتهاكات التي حدثت في سياق التوتر الاجتماعي والسياسي الذي شهده المغرب بعد الاستقلال. ولم يكن مستغربا أن ينكأ خبرُ وفاة اليوسفي جراحا لم ينجح تقرير الهيئة في تضميدها، على الرغم من الجهود التي بذلها أعضاؤها. ولذلك كان مُتوقعا أن تعيد بعض منظمات المجتمع المدني تأكيد مطالبها في هذا الصدد. ومن ذلك مطالبة ''لجنة التنسيق لعائلات المختطفين ومجهولي المصير وضحايا الاختفاء القسري بالمغرب'' بـ''الإسراع في إقرار الآلية الوطنية المستقلة للحقيقة، قبل وفاة كل المتورّطين في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب وفي مقدمتهم الجلادون''.
تطرح وفاة اليوسفي أسئلة مركزية بشأن كشف الحقيقة، وتحديد المسؤوليات، والإفلات من العقاب، وحدود المصالحة، وتدبير الذاكرة، وجدل العدالة الانتقالية والتحوّل الديمقراطي. وتُمثل المسؤولية عن الانتهاكات التي حصلت أكثر الأسئلة دلالة في حالة اليوسفي. ومن المعروف أن التجارب الدولية تتباين في هذا الصدد، ففي وقتٍ اختار بعضها إعفاء المسؤولين عن الانتهاكات مقابل اعترافهم العلني بما اقترفوه في حق الضحايا والاعتذار لهم، وعدم تقلدهم مناصب سياسية أو إدارية في المستقبل، اصطدمت تجاربُ أخرى بصلابة البنية السلطوية للأنظمة الحاكمة، ما حال دون تبلور حلولٍ ناجعةٍ تنصف الضحايا، وتُعيد الاعتبار إليهم، وتضع آليات وبرامج فعّالة لجبر الضرر الفردي والجماعي والحفاظ على الذاكرة. وتقع التجربة المغربية ضمن هذا الصنف من التجارب محدودة التأثير على البنية السياسية والثقافية للمجتمع، لأسبابٍ يطول الخوض فيها. وعلى الرغم من أن المغرب كان سبّاقا إلى تدشين أول تجربة عربية في مجال العدالة الانتقالية، إلا أنها لم تؤثر على ميزان القوى السياسي والاجتماعي، لأنها افتقدت، منذ البداية، حاضنة سياسية تتمثل في تحول ديمقراطي حقيقي، يسندها ويفتح أمامها مسالك جديدة لمقارعة المشكلات المركزية، من قبيل كشف الحقيقة وإنصاف الضحايا والحفاظ على الذاكرة والالتزام بعدم تكرار الانتهاكات وتحقيق المصالحة بين الدولة والمجتمع وبناء دولة الحق والقانون.
ولعل ما يعطي وفاة اليوسفي دلالة، أنها تسائل الطبيعة التكتيكية للتدابير الحقوقية التي اتخذتها الدولة لتحسين أوضاع الحقوق والحريات خلال العقود الثلاثة المنصرمة. ويذكر المهتمون بالشأن الحقوقي في المغرب كيف دفعت السلطة باليوسفي إلى أن يكون ضمن الوفد المغربي الذي قدّم التقرير الحكومي الأول لدى لجنة مناهضة التعذيب خلال مؤتمرٍ لحقوق الإنسان نظمته الأمم المتحدة في جنيف (1994)، في سياق تأكيد التزامها بمقتضيات ''اتفاقية مناهضة التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية واللاإنسانية أو المهينة'' التي صادق عليها المغرب (1993)، قبل أن يتفاجأ الوفد بوجود معتقلين سياسيين مغاربة سابقين في المؤتمر، سبق لليوسفي أن أشرف على تعذيبهم. وقد شكّلت الواقعة حينها إحراجا شديدا للوفد المغربي أمام الأمم المتحدة.
إضافة إلى ذلك، تطرح وفاة اليوسفي جدلية الدولة والسلطة في المجال السياسي المغربي، والعربي بوجه عام، وكيف تستمر ظاهرةُ هيمنة السلطة، التي تعكس ميزان قوى معينا داخل المجتمع، على مؤسّسات الدولة وأجهزتها، والتي يُفترض أن تكون مستقلة عن الصراع الاجتماعي، وألا تتحوّل إلى أداة في يد السلطة، توظفها لترهيب معارضيها وتدجين المجتمع.