أنور إبراهيم الذي لا يعرف الهزيمة

أنور إبراهيم الذي لا يعرف الهزيمة

28 نوفمبر 2022

أنور إبراهيم في مؤتمر صحفي في سلانغور بماليزيا بعد رئاسته الحكومة (24/11/2022/الأناضول)

+ الخط -

قد لا يكون من المبالغة في شيء القول إن قصة الزعيم السياسي والإصلاحي الماليزي، أنور إبراهيم، ستمثل واحدة من أهم قصص الزعماء السياسيين المعاصرين الأكثر إلهاماً للأجيال، كأطول قصة نضال وسجون ومؤامرات وأمراض، كلها لم تفتّ في عضده، ولم تنل من عزيمته، وظل صامدا في نضاله حتى هذه اللحظة، التي توّج بها عاشر رئيس وزراء لماليزيا منذ الاستقلال، وبقاء تاريخ نضاله السياسي مفتوحاً لكلّ الاحتمالات.
نضالية أنور إبراهيم في أنه تعرّض لظلم كبير، وهو في أوج عطائه وتوهّجه السياسي، الذي كتبت عنه مجلة نيوزويك الأميركية عام 1998 "أنّه "الرجل الأول في شرق آسيا" وكان على وشك أن يتوّج رئيساً لوزراء ماليزيا حينها، في بداية محنته السياسية، عام 1998 من زعيم ماليزيا الأشهر، مهاتير محمد، الذي عرف عنه أنّه باني نهضة ماليزيا، هذه الصفة التي فيها كثير من المبالغة بنكران رفاقه وظلمهم، وهم الذين كان لهم دور كبير في هذه النهضة، لا يقلّ عن دور مهاتير إن لم يكن أكبر منه. فقد شكّلَ أنور إبراهيم ظلاً دائماً لمهاتير محمد، منذ لحظة صعوده السياسي وكان أحد أذرعه القوية التي كان يعتمد عليها كثيراً، منذ انضمام أنور إبراهيم لحزب الإتحاد القومي الماليزي عام 1982، وتبوّئه نيابة مهاتير في الحزب عدا عن تقلده عدة مناصب وزارية، للزراعة والشباب والتعليم، وفي تلك المرحلة بدأت بذور النهضة الماليزية وبواكيرها بالتشكل.
وكان الالتقاء بين الزعيمين، مهاتير وإبراهيم، أهم لحظات التأسيس لنهضة ماليزيا الراهنة، تعليمياً وتنمويا واقتصادياً، حيث لعبَ أنور إبراهيم القادم من حقل الدراسات الإنسانية، شعبة الاجتماع تحديدا، دوراً كبيراً وبارزاً كأهم رواد هذه النهضة وبناتها، بإسهاماته الباكرة في تأسيس الجامعات واستقدام الخبراء في هذا المجال، وكان لتجربة الجامعة الإسلامية العالمية دور كبير في هذه النهضة، وهي الجامعة التي ساهم في بنائها وتأسيسها أنور إبراهيم، والذي استطاع، بعلاقاته الواسعة، استقدام أهم كوادرها منذ البداية، كعبد الحميد أبو سليمان وغيره من المفكرين والخبراء من مختلف أنحاء العالم.

عكف على القراءة والتأمل الطويل في السجن، ما جعله أكثر قوة وصلابة في وجه كل هذه المحن التي استهدفته واستهدفت حياته الخاصة والعامة

ليس أنور إبراهيم مجرد سياسي هاو للسياسة التي بدأها في عمله مستشارا للشباب لدى الأمم المتحدة منذ تخرجه من الجامعة عام 1973، فالرجل قارئ نهم، ومفكّر كبير يمتلك شبكة علاقات واسعة حول العالم، ولديه مقاربات فكرية عدة وعميقة في ما يتعلق بالهوية والدولة والنهضة والحضارة والعلاقات بين الدين والدولة والديمقراطية والإسلام، والعلمانية، والتسامح والتعايش وكل هذه المفردات والمصطلحات الحاضرة اليوم في ميادين الدراسات الإنسانية الحديثة وحقولها.
يعدّ كتاب "النهضة الآسيوية" أهم بواكير أنور الفكرية والسياسية، وضع فيه تصوّراته ومقارباته للوضع الماليزي باكراً، وهي الرؤية التي لعب من خلالها كل ذلك الدور في تسيير مشاريع النهوض الماليزي، حتى لحظة إقصائه من منصبه نائبا لرئيس الوزراء وزيرا للمالية، عام 1998، ذلك الإقصاء الذي كان بداية إزاحة له من المشهد السياسي، بتهم الفساد و"اللواط" الكيدية، التي أُريد بها القضاء التام على مستقبل الرجل السياسي ودفنه إلى الأبد. لكن الرجل بما يمتلك من يقين، وصفاء روحي، ويقظة ضمير وشفافية مطلقة في مسيرته السياسية، جعل كل هذه التهم التي أودت به إلى السجن تبدو أشبه بمنحة وليس محنة، فقد عكف على القراءة والتأمل الطويل في السجن، ما جعله أكثر قوة وصلابة في وجه كل هذه المحن التي استهدفته واستهدفت حياته الخاصة والعامة.
ليست هذه المقالة في وارد الحديث عن محطات أنور إبراهيم السياسية المختلفة المتنقلة بين السجون والمشافي والمؤتمرات والمسيرات والتجمعات الشعبية، وإنما معنية بشخصية الرجل العصية على الانكسار والانكفاء والهزيمة، تلك الشخصية التي كانت تزيدها الأزمات قوة وصلابة أكثر مما كانت عليه، وهو ما جعل الرجل يصمد كل هذا الوقت، متغلباً على كلّ التحدّيات والمؤامرات التي حوّلت كل هزائمه السياسية إلى انتصارات أخلاقية، هي أهم وأعظم رصيد لأي سياسي عبر التاريخ.

يعود أنور إبراهيم مجدّدا، ولكن هذه المرّة يعود منقذا لماليزيا ونهضتها، يعود منتصرا ليس سياسيا فحسب، وإنما أخلاقيا أيضاً

ولهذا كله، تجسّدت في شخصية أنور إبراهيم شخصية المثقف الحقيقي، الذي لا تغريه السلطة ولا يستهويه بريقها، ولا ألاعيبها القذرة، بقدر ما تمثل له السلطة وظيفة أخلاقية لأداء رسالته التي آمن بها ونذر حياته لأجلها، ولا يسعى إلى السلطة بقدر ما تمثل له السلطة حينها لحظة التقاء بين الحقوق والواجبات، خدمة للناس لا تسيد عليهم فيها، وأداءً لواجبٍ لا غنيمة وجب اقتناصها. وهنا تحديداً، تتمايز بضدها الأشياء، فالزعيم مهاتير محمد الذي ظل ممسكا عصا السياسة ردحا، وحتى آخر لحظة في مشاوره السياسي، وهو في عامه الـ97، وما زال ينظر إلى نفسه على أنّه قادر على المناورة والمراوغة، وتقلبات المواقف السياسية، ما جعله يختم مشواره السياسي بهزيمتين مدوّيتين، هُزم حزبه انتخابياً وخسر هو دائرته الانتخابية أيضاً. وهذا كله، ولا غرض منه سوى حرص مهاتير الشديد على ألا يتولى أنور إبراهيم رئاسة الوزراء، وهو الذي قضى عشر سنوات في السجن، بتهمة كيدية سياسية من صنيعة مهاتير نفسه، الذي خرج بعدها أنور إبراهيم متعاليا على جراحه ومتحالفا مع خصمه اللدود مهاتير مرّة أخرى، في انتخابات 2018، على أن يتقاسما منصب رئيس الوزراء على فترتين، لكن مهاتير، إمعانا في ألاعيبه السياسية، تخلى عن الاتفاق ورفض التخلّي عن المنصب، ما أدخل البلاد في أزمة سياسية طاحنة.
وها هو بعد كل هذا النضال الطويل، يعود أنور إبراهيم مجدّدا، ولكن هذه المرة يعود منقذا لماليزيا ونهضتها، يعود منتصرا ليس سياسيا فحسب، وإنما أخلاقيا أيضاً، رجل عمرَ قلبه بالتسامح والمبادئ والقيم التي يفتقر لها كثيرون من سياسيي هذا الزمان الموبوء بالتعريفات الرديئة للسياسة باعتبارها لعبة قذرة لا مكان فيها للقيم والمبادئ والأخلاق. عاد إبراهيم بتكليف مباشر من ملك ماليزيا، بعد عدم تمكّن أي ائتلاف من تحقيق نسبة تمكنه من تشكيل الحكومة، والذي يتطلب 112 مقعدا من أصل 220 مقعدا، ولكن هذه النسبة لم يحققها أي ائتلاف، وإن كان ائتلاف الأمل لأنور إبراهيم قد حقق 82 مقعداً متقدّماً على الائتلاف الوطني الذي حصد 73 مقعداً.

لا يزال أمام الرجل السبعيني تحدّيات عدة اليوم، عليه أن يجتازها، في مقدمتها أزمة الهوية التي تلوح في أفق المشهد الماليزي

مع ذلك، لا يزال أمام الرجل السبعيني تحدّيات عدة اليوم، عليه أن يجتازها، في مقدمتها أزمة الهوية التي تلوح في أفق المشهد الماليزي، وأزمة الاقتصاد التي كان هو فارسها في منتصف تسعينيات القرن الماضي، عدا عن استنهاض ماليزيا لاستعادة دورة جديدة من الرفاه والازدهار والاستقرار الحقيقي الذي يستند على مشروعية حقيقية، تتجاوز حالة الركود والاختزال للتنمية بمجموعة ناطحات السحاب وأبراج بتروناس في قلب كولالمبور، فالرجل صاحب مشروع حضاري كبير، ذلك المشروع الذي يكثر الخصوم من حوله، أكثر مما يتزايد الأصدقاء والحلفاء، وهو ما يتطلّب جهدا كبيرا من أنور إبراهيم وطاقم عمله المتنوّع والعابر للإثنيات الحاكمة للسياسة الماليزية، وهو مشروع الأمة الماليزية القائم على مواطنة متساوية وعدالة وحرية وهوية حضارية لكل أبنائها، ولا يستبطن امتيازات ما لهذه القومة أو تلك في إطار الدولة الماليزية الواحدة والموحّدة، وهذا ما نخال أن أنور إبراهيم قد أعدّ نفسه له خلال هذه المرحلة بعد كلّ مشوار نضاله السياسي الطويل هذا، والمكلف سجونا وتهماً وصحّة.
ختاماً، حتماً لدى أنور إبراهيم، بكلّ هذه التجربة الكبيرة والثرية، كثيرٌ من الحكمة والخبرة والمعرفة للنجاح، وإعادة الاعتبار لتاريخه ونضاله والمؤمنين به، وللشعب الماليزي الذي يكن لهذا الرجل كثير من التقدير والاحترام. فضلا عن هذا كله، إنّ رجلا تقف خلفه طبيبة ومناضلة سياسية محنكة، زوجته عزيزة إسماعيل، سيمضي في إنجاح مشروعه هذا، الذي نتمنى له كل التوفيق والنجاح.

نبيل البكيري
نبيل البكيري
كاتب وباحث يمني مهتم بقضايا الفكر والفلسفة والاجتماع والتاريخ والسياسة.