الأمواج تبتلع الأحلام

الأمواج تبتلع الأحلام

20 اغسطس 2023
+ الخط -

تستمرّ المياه المحيطة بالقارّة الأوروبية ومن في حكمها، بشكل شبه يومي، بابتلاع أجسادٍ نضرةٍ كانت أرواحها تسعى إلى لجوءٍ اقتصاديٍ أو سياسيٍ أو بيئيٍ بعيدًا عن "أوطانها" الأم. أوطانٌ تعاقب على حكمها، وراثيًا وانقلابيًا، مستبدّون لحيوات شعوبها أو سارقون خيرات أرضها وأعمال ساكنيها، أو لمن توفّرت لديهم الصفتان معًا، وهو الأعمّ والأشمل.

ومن المفيد، والحال كهذه، السعي إلى الابتعاد عن التبريرات المدرسية، التي تستند في جذورها ومبتغاها إلى واقعٍ تاريخيٍ يصحُّ أحيانًا، ولكنه صار مستهلكًا من كثرة الاستخدام والاستعادة والاستفادة والتبسيط، في أحيانٍ كثيرة. فخطاب بعض أهل الجنوب، وخصوصًا ممّن أُتيح لهم الهرب من أتون الفقر والوضع السياسي البائس في بلدانهم، والذين ينعمون غالبًا ونسبيًا براحة العيش والبال ووضوح المستقبل والمآل، يُصرُّ على أن يُغدِق على بلدان اللجوء، الغربية غالبًا والمتطوّرة عمومًا والغنية إجمالاً، ما تيسّر من اتهامات المسؤولية التاريخية المرتبطة بفترات الاستعمار الغابرة، التي هيمنت من خلالها هذه الدول على دول الجنوب وأفقرتها واستنزفت ثرواتها وجهّلت شعوبها وصحّرت أراضيها الخصبة، ورهنت اقتصاداتها إلى أبد الآبدين، لتكون تابعة، ولو أنها استقلت عن المستعمر الشمالي، لهذا المستعمر نفسه أو لحلفائه إلى أجل غير مُسمّى. ينضمُّ إليهم أيضًا من مكث في البلاد الأم برعاية كريمة ودراية أمنية من السلطات الحاكمة على المصير والقابضة على الأنفاس.

وفي الطريق الى تجسيد هذا السعي الواعي بكلماتٍ واضحةٍ، لا يمكن أن نتجاهل الجذور التاريخية، ولا بنية العلاقات الإقليمية والدولية، ولا تطوّر التحالفات الاستعمارية، ولا تأثير القوى المركنتيلية، التي حكمت وتحكم وستحكم مصائر عدة، إلا أننا لن نتوقّف عندها، فاسحين المجال، بالتالي، لمن سبق ذكرهم بدايةً للاستفاضة والمبالغة، فهذا ما يملأ صفحاتنا البيضاء سعيًا إلى تبرئة أعمال ومواقف بعضنا السوداء، أو عزفًا للحنٍ مكرّرٍ يُفسرّ الماءَ بالماءِ.

قليلةٌ هي الدول في الجنوب التي انتقلت إلى ممارسة الحياة الديمقراطية بعد الاستقلال

ومن دون تبرئة العوامل الخارجية البتّة، وبعيدًا عن نظرية المؤامرة الخارجية المريحة في الآن ذاته، دعونا نتوقف عند الفاعل والعامل والمؤثّر الداخلي ولو مرّة، من دون أن تنهال علينا الاتهامات بالدفاع عن الآخر وتقمّص دوره وخدمة أهدافه (يفضلون أن يستبدلوها بعبارة "أجندته" الفصحى)، فقد تعاقبت على حكم بلدان الجنوب منذ استقلالها عن المستعمر الغربي الغاشم، حكومات وطنية اشتُهِرَت بمستوى عالٍ من الاستبداد، وباعتبار أن الحاكم هو كملك الشمس مندوب الله تعالى على الأرض في ما يخصّ الرعيّة المحرومة من المواطنة، وما يخصّ أرضها وزرعها وضرعها. قليلةٌ هي الدول في الجنوب التي انتقلت إلى ممارسة الحياة الديمقراطية بعد الاستقلال، وذلك لتبريراتٍ عدة، منها أن المستبد المتنوّر هو خيرٌ لها في مرحلة البناء. تبرير لم يستعمله الطغاة فحسب، بل آمن به وروّجه مثقفون تقنيون كثيرون.

على مائدة الاستبداد، يطيب أن توضع أطباقٌ متنوعة من الفساد وصحبه. تتشكّل حينئذ مؤسّسة الاستبداد الفاسد والمُفسد. فسادٌ يتمكّن من خلاله المستبد من تمويل خضوع بعض من الرعيّة المتمجّدين والمسبّحين بخيراته وبرعايته. كما يتمكّن من تغطية تكاليف حمايته الأمنية، وهي الأساس في ديمومته. وأخيرًا، هو يستطيع، وإن عظُمت الثروة، أن يشتري راحته حتى على المستوى الخارجي بأشكالٍ مختلفةٍ. ويدعو المستبدّ، حين يطيب الطعام، بعضًا من ممثلي مصالح الدول الغربية التي تتبنّى أنظمتها العملية الديمقراطية لديها، والتي لا يعنيها في ديمقراطية الآخرين سوى الخطاب الفارغ والسرديات المستهلكة.

الهجرة من أعقد ملفّات العلاقات الدولية ومن أكثرها عرضةً للاستغلال

السياسة والاقتصاد أساسيان إذًا في دفع الناس الى غمار البحر بحثًا عن طوق نجاة من دون سترة نجاة. وفي العقود الأخيرة، أُضيف عاملٌ هام ما فتئ يتطوّر وينمو طولاً وعرضًا على سطح الأرض، وهو العامل البيئي الذي صار تأثيره التدميري من أهم أسباب هروب سكان دولٍ لم تقم فيها قائمة للسياسات البيئية، لأن حكّامها كانوا، وما زالوا، منشغلين في سرقة ثرواتها وفي قمع شعوبها.

أضف إلى ذلك كله عاملا مهما من الضروري أن يتوقف المعلّقون والمراقبون عنده، وهو استخدام أنظمة الجنوب البشر لمقايضتهم بمكاسب سياسية، أو لعقاب دولة بعينها لم تستجب لرغبات المستبدّين في تحسين العلاقات أو في تغيير مسارها، أو في رفعٍ لعقوبات، أو في تبريرٍ لانتهاكات، فنجدُ مثلاً تسهيلات مغربية لعبور مهاجرين غير شرعيين عبر الحدود البرّية والبحرية للضغط على إسبانيا لتعديل موقفها من الصحراء الغربية. وتشجيعات تركية لعبور لاجئين نحو دول الاتحاد الأوروبي للضغط مقابل الحصول على أموال أو تنازلات سياسية. كما تعرض بعض الحكومات المستبدة خدماتها الأمنية لمشاركة الغرب في حماية أراضيه من "غزو" اللاجئين والمهاجرين من دول الجنوب، كتونس ورواندا.

وبالعودة إلى الدور الخارجي، يسهم تضافره مع العامل الداخلي في جعل الهجرة من أعقد ملفّات العلاقات الدولية ومن أكثرها عرضةً للاستغلال. ويبقى الإنسان الضحية التي إن سمحت لها الأمواج بالوصول الى يابسة الأمل، فستقع ضحية استغلال أو فقرٍ مُتجدّد أو صدمة ثقافية. وإن ابتلعتها أمواج البحر، فلن يَرِفَّ جفن الحكام، المستبدين منهم والديمقراطيين.

A09B3D1D-C47E-4064-B64E-B91C5A3F06C7
سلام الكواكبي

كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا